أثناء متابعتي لأحدث ما طُرح من أسئلة في منصة “كوارا” ، لفت نظري السؤال التالي : ما هي بعض التجارب المخيفة التي حصلت في تاريخ البشرية؟ . بدا لي السؤال مثيرا يستحق مني التفاتة . وعند اطلاعي على الأجوبة المقدمة ، أعجبني كما أدهشني جواب أحدهم عن تجربة لم أكن قد سمعت عنها قبلا . ولم أستطع منع نفسي من مشاركة هذه المعلومة مع من يهمه معرفتها ، خاصة أن لها علاقة بموضوع مهم سبق وطرحناه ، وهو مشكلة التلعثم عند الأطفال .
التجربة التي اصطلح على تسميتها ب “الوحش” لأسباب كثيرة ، كانت دراسة لإحدى طرق العلاج الممكنة لمشكلة التلعثم . لكن المخيف فيها التلاعب النفسي اللاأخلاقي الذي طُبق على الأطفال ، وسنرى بالتفصيل كيف تم ذلك .
مَن و لماذا ؟
لإثبات نظريته عن سبب التلعثم عند الأطفال ، وتفنيد ما كان شائعا معروفا وقتها خلال الثلاثينيات من كون سببها عضويا أو وراثيا ، قرر أخصائي أمراض النطق ، الدكتور ‘ويندل جونسون’ إجراء تجربة الوحش . فكرته عن الاسباب كانت مناقضة لما عُرف قبله . فقد كان يرى أن وصف الطفل بالتلعثم والتأتأة يمكن أن يجعل حاله أسوأ ، ونفس الشيء قد يحدث لو وصفت طفلا سليما بذلك . هذا إجمالا ما كان ‘ويندل’ يحاول إثباته من خلال تجربته الغريبة ، والتي أثارت طريقتها ونتائجها جدلا واسعا .
التجربة كانت من إعداد طالبة الدراسات العليا ماري تيودور تحت إشراف ويندل جونسون ضمن أبحاث التلعثم في جامعة إيوا عام 1939 ، تحت عنوان : “دراسة تجريبية لتأثير الوسم التقييمي على طلاقة الكلام”
أهداف التجربة
كما سبق وذكرنا ، فإن هذف الدراسة الأول هو إثبات نظرية ويندل . وقد أجريت للإجابة على التساؤلات التالية :
- هل إزالة وصف “التلعثم” من أولئك الذين تم تصنيفهم على أنهم متلعثمون سيكون لها تأثير على طلاقة الكلام ؟
- هل سيكون لتأييد صفة “التلعثم” لدى شخص متلعثم تأثير على طلاقة الكلام؟
- هل سيكون للمصادقة على تسمية “المتحدث العادي” تأثير على طلاقة الكلام؟
- هل سيكون لوصف الشخص ، الذي كان يُنظر إليه سابقًا كمتحدث عادي ، أنه “متلعثم” تأثير على طلاقة الكلام؟
كيف تم ذلك ؟
أهم أهداف الدراسة كان تحديد ما إذا كان تصنيف شخص كان يُنظر إليه سابقًا كمتحدث عادي على أنه “متلعثم” سيكون له أي تأثير على كلامه أو لا .
ولمعرفة ذلك ، قام ويندل وتيودور بإحضار 22 طفلا يتيما ، 10 منهم متلعثمون ، وال12 الآخرون متحدثون عاديون . وقد تم تقسيمهم كالآتي :
- المجموعة IA : وتضم 5 أطفال متلعثمين ، والذين اُخبروا خلال التجربة ، أنهم غير متلعثين ولا يعانون من مشاكل في الكلام .
- المجموعة IB : تضم 5 متلعثمين ، تم تثبيت صفة التلعثم لديهم ، وزيادة وعيهم لمشكلتهم .
- المجموعة IIA : تضم متكلمين عاديين ، تم إقناعهم أنهم يعانون من مشكلة التلعثم ، وعليهم تجنبها قدر المستطاع . وهؤلاء الستة كانوا الموضوع الأهم للتجربة ، وكانت أعمارهم تتراوح بين سن الخامسة والخامسة عشرة وهي : 5 ، 9 ، 11 ، 12 ، 12 ، 15 .
- المجموعة IIB : تضم المتكلمين الستة العاديين المتبقين ، وهؤلاء تم تقديم تشجيع إيجابي لهم وإخبارهم أن كلامهم جيد وطليق .
كما تم إخبار عدد من المعلمين والموظفين في دار الأيتام بأن الأطفال في المجموعة IA ليس متلعثمين تماما وأنه لا ينبغي أن يهتموا أو يعلقوا على كلامهم ، وأن الأطفال في المجموعة IIA متلعثمون و يجب عليهم متابعة كلامهم ، وقطع كلامهم كلما ترددوا ، وجعلهم يكررونه. وهذا السلوك المتبع على المجموعة IIA ، هو ما أعطى التجربة الطابع اللاأخلاقي ، والسمعة السيئة.
ما النتيجة ؟
نتائج التجربة كانت مأساوية نوعا ما إن صح التعبير . فالأطفال الستة العاديون الذين تم إقناعهم بأنهم متلعثمون ، أصبحوا يعانون من مشاكل في الكلام ، وصاروا أكثر ترددا عند الحديث . كما أنهم لا يتحدثون إلا عند حثهم على الكلام ، وإن تكلموا فببطء ودقة وتركيز أكبر فيما يقولونه . إضافة إلى أنهم صاروا خجولين ومحرجين ، بعد تقبلهم لحقيقة وجود مشاكل في كلامهم . وبالإجمال ، تغير كبير في سلوكهم عند الحديث . أما المجموعات الثلاث الأخرى ، فلم يُسجل فيها تغير كبير كالذي شهدته المجموعة IIA .
ولدى رؤية النتائج السيئة الكارثية التي جَرَّتها التجربة ، حاول الباحثون التراجع وإزالة الضرر المسبب ، ولكن الأوان قد فات ، وباء ت محاولاتهم بالفشل الذريع .
مع أن هدف ويندل من التجربة كان خطوة لمساعدة المتلعثمين ،ومع أن نتائجها دعمت بشكل أو بآخر نظرية ويندل ، إلا أن التجربة فاشلة أخلاقيا وذلك للأسباب التالية:
- أنه تم استخدام البشر للتجربة
- أنه لم يتم إخبار الأطفال بأنهم قد دخلوا تجربة للدراسة ، ولم يُعرف ذلك إلا بعدما كشفت عنه إحدى الصحف بعد أكثر من 60 عاما
- أن المعلمين والموظفين في دار الايتام قد أقحموا في اللعبة دون علم بالخبايا ، إذ كانوا مخدوعين حول ماهية أطفال المجموعة IIA .
- لم تُنشر التجربة أو الدراسة في أي مجلة ، والملف الوحيد الذي تضمن تفاصيلها هي أطروحة ماري تيودور فقط ، ما جعل كثيرين يعتقدون أن ضررها على الأطفال كان أكبر مما عُرف .
وقد قدمت جامعة إيوا اعتذارا عن التجربة ونتائجها عام 2001 ، أي بعد حوالي 62 سنة من التجربة . كما قدمت مبلغ 1.2 مليون دولار لسبعة من الأطفال اليتامى الذين تركت فيهم التجربة ندوبا نفسية دائمة . وبالرغم من أنهم لم يكونوا متلعثمين تماما ، إلا أنهم كانوا يترددون في الكلام والتحدث.
المراجع
- Tudor, M. “An experimental study of the effect of evaluative labeling on speech fluency“. Master’s thesis, University of Iowa, 1939.
- FRANKLINH. SILVERMAN , “The “monster” study“, Marquette University
- Nicoline Grinager Ambrose , Ehud Yairi, “The Tudor Study: Data and Ethics“, University of Illinois at Urbana-Champaign