لفتات وثرثرات

واخضرتاه! حسرة في السوق.. عندما يوجد الخير وأُمنع عنه

اليَومُ جَمِيلٌ وَالنَّسِيمُ عَلِيلٌ، وَالشَّمسُ تَضحَكُ لِلأَرضِ مِلءَ فِيهَا [أي فمها]، وَتُعَانِقُ مَن يُحَيِّيهَا. وَالسُّحبُ القُطنِيَّة الصَّغِيرَة تَسبَحُ فِي زُرقَةِ السَّمَاءِ كَالسَّمَكِ وَسطَ المَاء. وَالرِّيَاحُ تَتَلَاعَبُ بِالأَورَاقِ المُصفَرَّةِ الذَّابِلَة، فَتَارَةً تَرفَعُهَا وَأُخرَى تَخفِضُهَا ثُمَّ تَطرَحُهَا بَعدَ الأَخذِ وَالرَّدِّ لِتَستَقِرَّ فِي اللَّحد.

فِي هَذِهِ الأَجوَاء اللَّطِيفَة الَّتِي تُدَغدِغُ الأَقدَامَ لِتُحفِّزَهَا عَلَى الخُرُوجِ، أَخرَجتُ المَالَ وَجَهَّزتُ الحَالَ لِلذَّهَابِ إِلَى سُوقِ المَدِينَة الكَبِير. رَكِبتُ سَيَّارَةَ أَخِي الصَّغِيرَة وَتَوَجَّهنَا صَوبَ المَدِينَة. مَا تَفَاءَلتُ وَلَو قَلِيلًا بِشَأنِ السُّوقِ وَمَا يَحوِيهِ، وَلَا أَحسَنتُ الظَّنَّ فِيه، لِأنَّا أَلِفنَا مُؤَخَّرًا استِعَارَ النَّارِ فِي الأَسعَار، وَصِرنَا فَرِيسَةً فِي مَصيدَةِ التُّجَّارِ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى اتِّبَاعِ الصِّرَاطِ وَالعَدلِ فِي الأَقسَاط.

لَكِنِّي فُوجِئتُ أَوَّلَ مَا خَطت قَدَمَايَ البَابَ بِكُلِّ مَا لَذَّ وَطَابَ مِن أَنوَاعِ الفَاكِهَة الَّتِي تَتَرَبَّعُ فِي الوَاجِهَة، فَتُسِيلُ اللُّعَابَ وَتَسلُبُ الأَلبَاب. فَالعِنَبُ سَيِّدُ السُّوقِ يَتبَعُهُ البرقُوق بِرَوَائِحَ تُوقِظُ وَحشَ الجُوعِ النَّائِمِ، وتُفَطِّرُ الصَّائِم. وصَنَادِيقُ التُّفَّاحِ الَّتِي لَا يَملِكُ المَرءُ عِندَهَا إِلَّا أَن يُخرِجَ صَرَّتَهُ، وَيَصرِفَ فِدًا لَها ثَروَتَه.

وَغَيرَ بعِيدٍ تَصطَفُّ الخُضَرُ كَالجُنُودِ عَلَى الحُدُود، وَحِينَ تَقِفُ جَنبَهَا أَو تَنظُرُ صَوبَهَا، تُسبِّحُ الخَالِقَ وتَحمَدُالرَّازِقَ أَن أَخرَجَ مِن جَوفِ الأَرضِ هَذَا الخَيرَ العَظِيم وَالنَّعيمَ المُقِيم. سُوقُ الخُضَارِ مُمتَدٌّ كَالبَحرِ، جَذَّابٌ كَالسِّحر، بَل هُوَ لَوحَةٌ فَنِّيةٌ بِلَمَسَاتٍ عَبقَرِيّة، أَبدَعَ فِيهَا الفنَّانُ تَدَاخُلَ الأَلوَان بِمُنتَهى الإِتقَان. ففِيهِ كُلُّ أَعشَابِ الطّهوِ وَفَلافِلِ الحَشو، وِكُلُّ مَا يحِنُّ لَهُ الصّحنُ وتطرَبُ بِهِ البَطن مِن بَطَاطَا وَمَلفُوف، وَشَمَندَرٍ مَصفُوف، وقَرعٍ نَاضِجٍ، وخِيَارٍ طَازج، وَبَصَلٍ تُطَوِّقُهُ حزَمُ الثُّومِ كَمَا يُطوِّق العِقدُ جِيدَ الحَسنَاء، أَو كَتَحَلُّقِ الأَبنَاء حَولَ الآبَاء. وَعَلَى الرُّفُوفِ التَّمرُ والجَزَر، وَالخَسُّ والشّمر وكًلُّ مَا تَعرفُ ولَا تعرف مِنَ المُكسّراتِ والتّوابِل، وَالجَوامِدِ والسَّوائِل، وكل ذلك بثمن بخس دراهم معدودات، يستطيعها الغني والفقير، و”الزوالي” والمدير .. هُوَ بِاختِصَارٍ جَنَّةُ الدُّنيَا الَّتِي يَحكُون، وَنَعِيمُهَا الذِي يَصِفُون.

في سوق الخضار

لَكِن وَاحَسرَتَاهُ .. وَوَاأَسَفَاهُ.. وَوَاخَضرَتَاهُ!! أَينَ مَن يَعرِفُ قِيمَتهَا فَيَبتَاع وَيُرِيحَ قَلبِي المُلتَاع!! دَخَلتُ فَرحَانًا إِلَى السُّوقِ وَوَدَّعتُهُ وَأَنَا مَخنُوق. وإِلَيكُم السّبَبَ فَلتَسمُعُوا العَجَب.

أَبهَرَنِي مَا رَأَيتُ وَأَسعَدَنِي مَا شَهِدتُ، فَفزَّ لَهُ البَطنُ، وَتَحَمَّسَ لَهُ الذِّهنُ ليُرسَلَ لِلأَعصَابِ الأَمرَ فَتُخرِجَ الدّنَانِيرَ، وَتَلزَمَ الطّوابِيرَ . ولكِنَّ أخي عَدوَّ الرَّغَبَاتِ، مُحَطِّم الأُمنِياتِ، تَدعَمُهُ ربَّةُ البَيتِ المُوقّرَة، بِأَوَامِرِهَا المُسطَّرة، حَالَا دُونَ شِرَائِي، ورَفَضَا قَطعًا رَجائِي. وودّعتُ السُّوقَ وقَلبِي مُعلَّقٌ بِأَسوَارِه، أَسِيرٌ لِخُضارِه، ولساني حالي يقول:
وَلَو قالَ لي الغادونَ ما أَنتَ مُشتَهٍ … غَدَاةَ تَرَكنَا السُّوقَ قُلتُ أَعُودُ (1)

قصيدة

وحَتَّى لَا يَمُوتَ الأَخُ الفَاضِلُ بِالحَسرَة، وَتَحرِقَه الجَمرَة.. وَجَبرًا لِخَاطِرِهِ المَكسُورِ، وَقَلبِهِ المَفطُور .. نَظَمتُ هَذِهِ الأَبيَات:

وَا “خَضرَتَاهُ” أَيَدرِي السُّوقُ مَا فِيــهِ
فِيــهِ النَّعِيـمُ وَلَكِـن مَــن سَيَشــرِيــهِ

نَزَلـتُــهُ اليَــومَ مُبتَــاعًــــــا فَأَبـهَـرَنِــــي
مَــا قَد رَأَيــــتُ وَمَــــا تَحــوِي نَوَاحِيـهِ

فِيـهِ الصَّنَـادِيــقُ تَزهُو مِن فَوَاكِهِــهَا
فِيــــهِ الخُضَـــارُ تُنَــادِي كُــلَّ مَن فِيهِ

تِلكَ البَطَاطَا وَصَفُّ “القَرعِ” يَحرُسُـهَا
وَذَلِـــكَ “الجَـزَرُ” “المَلفُــوفُ” يَحمِيهِ

ثُمَّ “الشَّمَـندَرُ” كَالسُّلطَــــانِ يَمنَتـــهُ
جَيشُ “الفَلَافِــلِ” وَاليُســرَى جَوَارِيهِ

أَعنِي “السَّبَانِخَ” ثُمَّ “الخَسُّ” يَتبَعُـهَا
ذَاكَ “النَّدِيـمُ(2) بِمَا يَــروِي وَيُملِيــهِ

وَ”الكُرنُبُ” “البَصَلُ” الغَالِي يُقَابِلُــهُ
وَ”الثُّــومُ” جَنــبَــهُ تَلقَــاهَــــا دَرَارِيـــهِ

يَــا مَـن رَأَى ثَـمَّ “تُفَّـاحًــا” يَسِيــلُ لَــهُ
سَيــلُ اللُّعَــابِ وَ”خَــوخًــا” جُـنَّ رائِيهِ

وَبَينَــهَا “العِنَبُ” المَصفُوفُ دَانَ لَهُ
عَقـلُ الجَمِيــعِ بِـلَا صَفـرَاءَ(3) تَسقِيهِ

يَكفِيـــــكَ مِنــــهُ عَبِيـــرٌ لَــو تَنَشَّــقَـــهُ
أَنــفُ العَلِيــلِ لَكَــانَ الرِّيــحُ يَشفِــيهِ

وَلَـــو تَذُوقُ -أَخِـــي- حَبًّــا بِــهِ سَتَرَى
أَنَّ الحَـــــزِينَ “بَنَاتُ الكَرمِ”(4) تَكفِيهِ

السُّـــوقُ تَعمُـــرُهُ الخَيــــرَاتُ قَاطِــبَةً
لَكِـــــن بِرَبِّـــكَ مَــن يَشـــرِي فَيُعطِيهِ

مَــــن ذَا يُقَـــدّرُ هَــذَا الخَيــرَ إِخوَتَنَــــا
مَـــن ذَا يَـــرَاهُ نَعِيــــمًا قَــلَّ مُهـــدِيـهِ

فِي الجَيبِ مَالٌ وَهَذَا الخَيرُ يَجذِبُنِي
لَكِــــن غُلِبــتُ فَلَــم أُذعِــن لِدَاعِـــــيهِ

وَاحَســرَتَاهُ عَلَــى مَا  ضَاعَ وَا أَسَفِي
ذَاكَ النَّعِــــيمُ غَبِــــيٌّ مَــــن يُخلِّــــــيهِ

الهوامش


(1) البيت الأصلي هو: وَلَو قالَ لي الغادونَ ما أَنتَ مُشتَهٍ … غَداةَ جَزَعنا الرَملَ قُلتُ أَعودُ، ولكني تصرفت فيه ليناسب الموضوع والموقف من باب الدعابة.

(2) النّديم المقصود هنا هو “الباذنجان“، وأشير به إلى القصة التي نظمها أحمد شوقي في قصيدته “نديم الباذنجان” التي تقرؤها في هذا المقال.

(3) وأعني بالصفراء الخمر، وهو مأخوذ من قول أبي نواس “صفراء تفرق بين الروح والجسد”

(4) بنات الكرم كناية عن العنب

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى