منوعات

وخاب الرجاء .. قصة قصيرة

كان ولدها الوحيد ، الذي لم ترزق غيره والذي جاء بعد سنين من السعي والدعاء ، وعناء التنقل من مشفى لآخر ، ومن طبيب لأمهر .. عل الله يفك الكرب ، ويقر عينها بولد يملأ عليها حياتها ، و يكون سندها عندما يعوج العود، ويحدودب الظهر، ويفنى البدن ، وتخور القوى .

وجاء ، فأهدته من فرط الفرح روحها ، ووهبته دنياها .. وأخرجت من برعمه الغض جذعا متينا ، وأساسا مكينا ، وسقته إحساسا عذبا ، وطبعا صلبا. فعلا شأنه بين الأقران ، وبدت هيبته بين الخلان ، وصار عَلَمًا يُشار له بالبَنَان .

وظلت تدعو له في كل ثانية وكل لحظة ، وتتبع بقلبها نموه ونبوغه …  وكلها فخر بما أنجبت ، واعتزاز بما خرَّجت ، من مدرسة الفقر المدقع .. ومع ذلك حرمت نفسها اللقمة ليكبر .. واللبس ليتأزر .. والعطر ليتعطر .. واللحاف ليتدثر .. ومنعت عن نفسها كل متع الدنيا لينضج ويزهر .. ويصير له اسم يُذكر . وهاهي الآن تجني ثمار صبرها ، وغلة سعيها .. وآن لها أن ترتاح ليستلم هو الزمام ، وينسيها تعب ما خلا من الأيام ، وما عانت لأجله من الآلام ، وضحت به من الأحلام ، التي كُتب لها أن تبقى دفينة سرها ، عسى ترى بعضها في هذا الولد الذي تعده كل دنياها ، ومنتهى أمانيها في الحياة .

وجاءها يوما مودعا ، إلى بلد بعيد ، وعمل جديد .. بعدما أغرقها بأجمل الوعود ، والأمل الممدود .. و سكب على مسامعها الكلام المعسول ، والعيش المأمول ، إن هو وفق في مسعاه ، ووصل مبتغاه . فلم تجد أمام إلحاحه إلا أن توافق حتى لا تكون حجر عثرة في طريق أحلامه . رغم ما ستقاسيه من ألم الفراق ، وثقل الأشواق .

وسار إلى ما خلف البحار ، مبتعدا عنها آلاف الأمتار ، إلى أهل غير الأهل ، وديار غير الديار . و كان يرسل أول الأمر مصروفا كل شهر ، مع رسالة يصف فيها شوقه العارم لها ، ويسأل عن حالها ومآلها . ثم لم تعد تصلها إلا النقود بعد شهرين ، فثلاث ، فأربع .. إلى ان انقطعت حبال الوصل ، فلم يعد يصلها دينار ، و لم تعد تسمع عنه أية أخبار ..

و تناهى إلى سمعها إشاعات تقول إنه قد تزوج هناك ، واستقر من غير رجعة .. فصارت حبيسة بيتها ، تبكي عقوقه وجحوده ، بعدما كانت تبكي غيابه ، وتتوجس من انقطاعه المفاجئ .  لكنها رغم ذلك لم تفقد الامل في عودته ، ولم تياس من أوبته .

وصارت قصتها معروفة في كل الحي .. صغيره وكبيره .. فمن بغيض شامت ، ومن متعاطف أسف للحال المزرية التي وصلتها ، والكآبة التي ملكتها .

وذات مرة .. جاء مجموعة من أولاد الحي يتدافعون صوب بابها وكل يريد أن يوصل الخبر قبل غيره ، ويأخذ أجره من العجوز التي حتما ستعطي الكثير ، لمن ينقله لها أولا . وتعالت أصواتهم مبشرة بقدوم نجلها المنتظر . وما إن سمعت المسكينة ما قالوه حتى هرعت إلى الشارع تبحث بأنظارها عن طيفه العزيز ، وقد اغرورقت العيون بالدموع حتى حجبت عنها الرؤية . وتلفت المسكينة يمينا وشمالا ، نظرت للقريب والبعيد ومامن مقبل . ولم تفطن إلا على صيحات الصغار وضحكاتهم العالية : ” سمكة أفريل على ظهر النائمين ” . وراحت المسكينة ضحية كذبة ، بعدما استنزف اللقاء المترقب مشاعرها ، وأعياها .. فقامت لفرظ غيظها .. واستعار غضبها .. ترشق الأولاد بالحجارة ، وقد أغرقتهم بوابل من الشتائم . وعادت إلى عزلتها ، كاسفة الطرف ، كسيرة القلب .. تنعى نفسها ومشاعرها ، وقد صارت غرضا للعب الصبيان .. وضحك الولدان . 

ربَّيتُك ابني كم تعبتُ  … وكل أحلامي دفنتُ
وصرتَ ذا صيت وشأو..  علَّ تُرجع ما بذلتُ
وبين ليلٍ أو ضحاه …   ذهبتَ واللقيا أملتُ
ولكن انقطع الرجاء …  فقلت علّي ما وهبتُ
لربما يا ابني بقيتَ …   وعشتُ عندك ما حييتُ
لَمَّا غدَا الولدُ الصغير…  يقولُ جئتَ و كم فرحتُ
وحين رحتُ اراك قال…    بضحكة أن قد كذبتُ
فعد عسى قلبي الكسير…   إذا رآك حكى، بَريتُ

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى