المعلوماتية

صناعة المحاور .. رأيٌ وشكرٌ وانطباع

هبت عواصف الفتن في كل قطر ومَصر، وفي كل بر وبحر .. وغرق في لُججِها الكبير والصغير، والجاهل والخبير .. وليس ذلك لقوتها ولكن لضعفهم، ولا لسطوتها ولكن لِذُلِّهم، ولا لرشادها ولكن لِغَيِّهِم .. وأصبحت اليوم نارًا موقدة لا يزيد لهيبها إلا استعارا، ولا لفحها إلا انتشارا ، ومشت تأتي على الأخضر واليابس ولا تترك خلفها إلا رمادا أو أشباه رماد.
ولكي توجد الأيادي التي تمسك بأكف الغرقى فتنقذهم، وترش ماء الحق على نار الفتن فتطفئها ، وُجِدت “صناعة المحاور”، لتكون المنار الذي ينير دروب التائهين، ويوجه خطو السائرين.. وينظم جيشا من المحاربين لفلول الباطل، والذائدين عن حياض الحق وشوكة الإسلام، حتى لا يزعزعها المبطلون في قلوب المسلمين بعدما استحكمت.

لماذا دخلتُ صناعة المحاور؟


لأغراض دراسية ومهنية، دخلت مجتمع “كورا – Quora” لأفيد وأستفيد، وأطّلع على آخر الأخبار وجديد الأفكار. ورغم الخير الكثير الذي يُقدّم فيه، والخبرات القيّمة التي يشاركها أصحابها هناك بصدر رحب، إلا أني تلقيت صفعة موجعة، وانصدمت كما لم أنصدم من قبل. وعلى كثرة الصدمات ووجع الصفعات التي تلقيتها من كفّ الحياة، كانت هذه الأوجع ووقعها الأفظع، ليس لأنها المرة الأولى التي أرى فيها مثل تلك الأفكار العوجاء، ولكن لأني أحسنت الظن كثيرا في زمرة “المثقفين” هناك، وكان وجع الخيبة على قدر هذا الظن.

وجدت هناك ذئابا في إهاب النعاج .. ليس لسفك الدماء، ولكن لافتراس الأفكار ونهب العقول. ورغم وجود ملحدين، مسيحيين، لادينيين وغيرهم إلا أن صدمتي كانت من كثير من “المسلمين”، الذين يتلاعبون بمعسول القول، ويخفون في ثنايا الكلام سهاما مسمومة كثيرا ما تصيب هدفها في قلوب وعقول الغافلين وقليلي الاطلاع، ومن ليس له المعرفة اللازمة بأمور الدين وما اتصل بها.

هؤلاء لا مشكلة عندهم في تعطيل الأحكام، وتحريف الإسلام، بحجة مواكبة العصر وتحرير الفكر. فقطع اليد والإعدام ظلم كبير لا يرضاه الإنسان لأخيه، ولا تُقِرُّهُ منظمات الحقوق التي خطّت بنود “الإنسانية” ليسير عليها البشر. وهناك من أمسك زمام الفتوى، فقام يفتي بما لا يعلم، ويحلل ويحرم ما شاء وكيف شاء، وحجته أن الدين ليس حكرا على المشايخ والعلماء الذين ما تركوا عيبا إلا وضعوه فيهم، ولا قصورا إلا نسبوه إليهم.

وللمسلم عند هؤلاء، أن يفهم الأحكام ويغيرها كما يريد، فإن شاء أقامها، وإن شاء أبطلها، فالدين يسير سهل، واضح مبين لا يَشْكُلُ على أحد فهم أحكامه واستنباطها. وله أن يفسر ويُؤَوِّلَ القرآن كما أملى عليه فكره، وفرض عليه عصره، حتى لو خالف التاريخ وناقض السنة وأَخَلَّ بالدين. وله أن يوقف الآيات على من نزلت فيه، ويتملص مما فيها من أوامر ونواه لأنه ليس المقصود بها بل غيره في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم !! ولن أستغرب لو تركها أحد لأنها لم تنزل عليه ! وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: “إنَّ منكم مَن يُقاتِلُ على تَأْويلِه، كما قاتَلتُ على تَنزيلِه“.

وفيهم من جعل نفسه حارس العلم، ومدافعا عن نظرياته ومكتشفاته، ونصّبه حَكَمًا للدين، يسقط بموجبه ما لا يتناسب معه، ويقر فيه ما ليس منه لأن سلطان العلم قال وعليه التنفيذ.    

والخطير في هؤلاء أنهم يؤكدون إيمانهم وتسليمهم لنصوص الكتاب وأحاديث السنة. ويقرون في كل مرة حبهم للدين وذودهم عن عرينه، ثم يشهرون سيوفهم في وجهه، ويصوّبون سهامهم إلى صدره، ويصدق فيهم قول القائل: “قلوبهم معك وسيوفهم عليك” – ولا يُسَتبعَد أن يكون القلب مع غيره – أمثال هؤلاء الذين يدسون السم في العسل هم العدو الأكبر، والداء الأخطر الذي ينخر عظم الإسلام، ويثقب جذع نخلته العظيمة وقواعده القويمة.

وجود أمثال هؤلاء في مجتمعات مفتوحة للقاصي والداني والصغير والكبير، هو أحد الأسباب الذي دفعني للتسجيل في برنامج صناعة المحاور فور سماعي عنه، حتى أمتلك الأدوات  التي تساعدني في دفع أذاهم عن أنفسهم قبل من يقرؤ لهم أو يتأثر بهم، أو على الأقل أعرف المنهجية والوسائل المساعدة في حوار أمثالهم والرد عليهم بما يقنع وينفع.

رأيي في صناعة المحاور:


مع نهاية كل مرحلة من البرنامج كنا نكتب آراءنا وانطباعاتنا عنها، وسأنقل لكم انطباعي كما  كتبته وقتها عن كل مرحلة.

مرحلة تعزيز اليقين:

صناعة المحاور من أجمل الأشياء التي مرّت في حياتي .. والسّويعاتُ القليلة التي أسرقها من انشغالاتي الجادة والعابثة لأنظر في مقرراتها ، أعدّها أكثر لحظات عمري بُعدا عن الفراغ وضياع الوقت ومن أجلّها منفعة وقُربا للدين .
قد لا أكون من الذين واللواتي صرفوا همتهم لتحصيل ما يقدمه البرنامج ، وفهم ما يُقرره حق الفهم . وربما لم أُعط البرنامج حقه من الوقت والهمة والجهد . لكني مع ذلك كنت أجني ثمارا غضة يانعة من كل دقيقة أجلسها في حَرَمه ، وأُحس في عقلي نضجا وفي قلبي يقينا يتجدد كلما هداني الله لفهم شيء من المقرر أو إتمامه .
كنت في هذه المرحلة كالطفل بين والديه ، يتدرجّان به في سُلّم المعرفة وصرح التلقي ، وهو يأخذ عنهما بِنَهَمِ الجوعان، وظمئ العطشان ، وفي كل جزئية يتعلمها تتفتح له آفاق من النور ، ومراتب من العلم كان أجهل الخلق بها . 

كنت أتنقل في بستان اليقين من زهرة لأخرى ، والعجيب أنه لم يكن أي بستان تتناثر زهوره في الأرجاء فلا تدري أَيَّها تقصد ، وإلى أيِّها تسير ، بل كان حديقة محكمة التنظيم قد رُتِّبَتْ زهورها في باقات عجيبة التصميم والنّظم ، أقصدها بترتيبها وكلِّي اطمئنان بأني في الطريق الصحيح ،  وأدخل الباقة لأخرج مُحمّلة بأجود الرحيق ، الذي لو أُخْرِجَ للنَّاس لَكَانَ عسلا مصفّى فيه شفاء لكثير من أدواء القلوب والنفوس والأرواح .

تعلمت منه الكثير مما يعزز في قلبي حب الإسلام ، وفهم مقاصده ، وإدراك حقيقة الدنيا وسر الوجود . وأعرف الآن لحد ما ، كيف يمكنني الرد على بعض صغار المبهورين بكل غربي ، ويحاولون تحت شعار نصرة الدين “تحديثه” ليوائم توجهات الغرب ، ومزاعم “الإنسانية” ، وتحليل المحرمات ، وتهوين المنكرات ، وإسقاط الحدود ، وإخراج “المرأة” من سجن الدين وأحكامه لتصبح “ند” الرجل في كل شيء ، وهذا أكثر المواضيع التي أراها هذه الأيام محل الجدال، وكم آسف عندما أجد لمثل هذه الأفكار صدى كبيرا في نفوس المسلمين . وقد كنت قبل دخولي له ، يتملكني الغيظ ويصل مؤشر غضبي ذروته ، ويداي عاجزتان عن تصحيح مفاهيمهم ، وتصويب نظرتهم،  والرد على من يستبعد كل ماهو “دين” في النقاش ، ويحاول فرض مسار في الحوار هو أبعد ما يكون عن الإسلام .

أما في حياتي اليومية والدينية ، فصرت أحاول إسقاط ما تعلمته على أرض الواقع ، لأن من أفضل ما تعلمناه في هذه المرحلة أن لامعنى للعلم في الإسلام إن لم يرفقه العمل . كما صرت وأنا أقرأ القرآن ، أجدني رغما عني حين أمر بآية درسناها في المقرر أفكر في المعاني التي تحملها ، والحكم التي تكتنزها مما تعلمته في تعزيز اليقين ، وكم وجدت نفعها عظيما .

لا أنسى مع الفوائد ، الأخوات الغاليات اللواتي قابلتهم في التفاعلية واستفدت منهم الكثير ، وأعدُّهم صحبة خير أرجو ألا يحرمني الله منها في قادم الأيام . وقد كانت مدارساتنا – والتي لم أحضر منها إلا أواخرها –  فسحة لها بالغ الأثر في نفسي جزاهم الله خيرا .

هذا كان ببعض الإطالة انطباعي عن هذه المرحلة الجميلة ، وأسأل الله أن يجازي القائمين عليها خير الجزاء ، ويُنعم عليهم بفضله وكرمه ويجعل الفردوس مآلهم .

وهذه محاولة شعرية متواضعة مني أعبر فيها عن شيء من امتناني للبرنامج وماتعلمته في هذه المرحلة :

روضٌ قَصَدْتُ رِحَابَهُ الفَيْحَاءَ مِن عَبَقِ الوُرُودْ
وكَنَحْلَةٍ  عَطْشَى طَفِقتُ  أُعَانِقُ  الزَّهْرَ الوَدُودْ
وأضمُّــهُ في القلـب عِقْـدًا  لا تمـاثِلهُ  العُقُودْ
عِقــدٌ مـن التّعــزيز  والإيمان للنَّفْـسِ الشَّـرُودْ
أرْسَى الثَّوَابِتَ في القلوب الهـشّة الحيرَى الكَنُود
فتحطَّمَتْ  في عُمْقِهَـا  الأغــلال  كُسّرَتِ  القُيَودْ
وتعلَّـمَتْ في نَهْجِـهِ  المِعْطَـاءِ أسـرارَ الوُجُـودْ
ومحــاسنَ  الإسلام  والقـرآنَ  نبـراسَ   الخُلودْ
وتعلَّـمَتْ عَنْ سُــنَّةِ المْخـتـارِ فِي حُـــبٍّ تَــذودْ
وتَقُولُ  لِلهدَّامِ  إنّا  في  حِـمى الدّيـن الجُنُــود

مرحلة الرد على الشبهات:

كانت هذه المرحلة كسابقتها من حيث النفع وجَوِّ الدراسة الجميل، والتفاعل الرائع الذي يُوَسِّع آفاق الطالب، ويفتح عينيه على تفاصيل قد يغفل عنها من مجرد قراءة عادية للمقرر. أما المواد المقدَّمة فرائعة جدا ومفيدة للغاية، تعلمنا من خلالها أسس الحوار والمناظرة، أساليب الرد وخطواته، تهيئة المحاور علميا، عمليا ونفسيا، فن الإلقاء والخطابة، المغالطات وكيف نتجنبها، الأخطاء واستخراجها والشبهات والرد عليها ودحضها. كل ذلك في تنسيق جميل وعرض مُبَسَّط ودعم سريع من اللجنة العلمية أو من الأستاذة إن احتاج الأمر لعمل فيديو توضيحي.

الإدارة والإشراف:   

إن كان لزاما أن أن نقدم شكرا خاصا فسيكون للإدارة؛ أساتذة، إشرافا وفنيين وجنود الخفاء الذين بفضلهم خرج البرنامج بحلته الجميلة. لم يدخر الأساتذة جهدا في توضيح الاستشكالات وشرح المبهم وتبسيط الصعب من المفاهيم والمقررات، وقد كانت توضيحات اللجنة العلمية رفيقتنا في كل المستويات مع سرعة ووضوح في الرد. 

أما الإدارة فكانت رسائلها وتوجيهاتها تصلنا في الوقت المناسب، و بأجمل الأساليب والعبارات المنتقاة بعناية لشحذ الهمم ورفع المعنويات. وعند كل مشكلة فنية كان الدعم الفني حاضرا لحلها وتسهيل أمور الدراسة للطلاب قدر الإمكان.

أما فريق الإشراف في التفاعليات فقد كان أول محطات أسئلتنا الكثيرة والمكررة غالب الوقت، وكان يجيب عنها بلا سأم ولا ملل ولا تذمر، ووجودهم معنا كان كنزا ثمينا  ودعما كبيرا . ورغم أن هناك من كان يتذمر من حذفهم لرسائله، إلا أن القوانين واضحة ومبينة منذ بداية الدراسة وما هم إلا مُنَفِّذُون  مأمورون، والقوانين التي قد يراها البعض تضييقا من نوع ما، تصب في صالح الطلاب وتضمن السيرورة الحسنة للنقاشات ضمن إطار الدراسة، بعيدا عن المشتتات والمواضيع الجانبية.

ولن أنسى فريق التلخيصات والتفريغات والمدارسات الذين كرسوا وقتهم وجهدهم لمساعدة الطلبة وتسهيل أمور الدراسة والمراجعة عليهم بما كانوا يتفننون في صنعه وتقديمه من عطاء وبذل.

لكل هؤلاء، أقدم خالص شكري وامتناني، وأسأل الله أن ينوِّر دروبهم، ويبارك مساعيهم، ويسدد خطوهم، ويضاعف أجرهم، ويجعل الفردوس مثواهم ومستقرهم. آمين.

ختاما ..

صناعة المحاور من أجمل الأشياء التي مرت علي، وأيامها لا أبدِّلها بأي غالٍ، ولم أندم يوما على دخولها وعلى تلك الساعات التي كرّستها لها، فقد كانت أكثر ساعاتي عمري نفعا وأبعدها عن ضياع الوقت واللهو العابث، ولو عاد بي الزمن ما ترددت خطوة في دق بابها ودخوله.

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى