أصعب مراحل التربية ، هي تلك التي يشعر فيها الوالدان بأن الطفل بدأ يتطبع بطباع سيئة ، و يكتسب صفات رديئة. وأكثر الصفات بروزا صفة الكذب ، التي لا يكاد يخلو منها بيت به أطفال .
في طفولتنا كنا نسمع الكثير من القصص عن الصّدق والكذب ، وسمعنا أناشيد تشيد بالصادق وتذم الكاذب . وحتى الرسوم المتحركة التي كنا نشاهدها لا تنفك تحمل في ثناياها رسالة عن ضرورة التحلي بالصدق ونبذ الكذب . وأذكر منها مثلا حلقة “أنا وأخي ” التي تتحدث عن “ريما” الفتاة الكاذبة التي كانت تَدَّعِي أن والدها صاحب شركة مرموقة ، وأمها ممثلة مشهورة ، وأنها تحصل دائما على أغلى الهدايا وأثمنها باستمرار ، ولمبالغتها الشديدة في ماتقوله وتصفه ، أصبحت مكروهة من زملائها وزميلاتها ، وساء ت علاقتها معهم ، وعندما انكشف أمرها أمامهم ، وانحرجت من نفسها ، اعترفت بخطئها ، وتركت الكذب ، لتعود علاقاتها من الحسن إلى الأحسن ، وصارت محبوبة من الجميع . وكذا الحلقة من نفس الرسوم ، والتي كذب فيها “وسيم” الطفل دو الثلاث سنوات عندما هرب الببغاء ، خوفا من العقاب ، وفي النهاية اعترف ، وعاد الببغاء سليما لتكتمل فرحته بعد المدح الذي تلقاه من عائلته .
أغلب الأطفال يكذبون لأسباب مختلفة ، لكن هذه الصفة لا تبقى فيهم ، وهنا لن يكون مشكلة . يصبح الكذب مشكلة عويصة عندما يصير طبعا في الطفل ، وعادة لا يمكنه التخلي عنها . وقبل أن نبدأ في ذكر الأسباب والعلاج ، يجب أن نفهم أولا ما هو الكذب وكيف تكون أشكاله .
ما هو الكذب ؟
الكذب هو التحدث بخلاف الحقيقة مع العلم ، أي أنه يعرف أنه كذب . ويكون بِنِيَّةِ الغش والخداع أو إخفاء جزء من الحقيقة أو كلها . وذلك رغبة في الحصول على شيء معين ، أو إحراز فائدة ، أو تجنب عقوبة ، أو التملص من واجب أو مهمة ، وغيرها .
في المراحل الأولى من العمر ، يكون صعبا على الطفل التمييز بين الحقيقة والخيال ، لذا قد تصدر منه كذبات غير متعمدة ، أو على الأقل حسب فهمه المبدئي القاصر للأمور . لكن مع تقدم العمر ، يصبح هذا السلوك مقصودا ومتعمدا ، ومع استمراره ، يصبح جزءا من شخصيته ، ويصير من الصعب التخلص منه .
ويمر فهم الطفل للكذب والصدق بثلاث مراحل :
- في المرحلة الأولى ، يرتبط فهمه للكذب بالعقوبة . فعندما يُعاقَب على كذبه كل مرة ، يَتَكَوَّن في ذهنه أن هذا التصرف خاطئ ، ولهذا عوقب عليه . لذا حينما يكذب دون وجود عقوبة أو نهر وتوبيخ من شخص كبير ، فإنه لا ينتبه لكونه خاطئا ، بل يصبح عاديا ومقبولا شأنه شأن بقية الصفات الأخرى .
- في المرحلة الثانية ، يصبح الكذب تصرفا خاطئا لذاته ، ويبقى كذلك حتى مع انعدام العقوبة .
- في المرحلة الثالثة ، يظل الكذب خاطئا ، لأنه يتعارض مع التعاطف والاحترام المتبادل .
أشكال الكذب
يكون كذب الأطفال على أشكال مختلفة ، ومن بينها :
- قلب الحقيقة : كأن يقر الطفل بأنه قام بأمر ما ، والحقيقة أنه لم يفعل . مثل قوله بأنه أنجز واجباته حتى يُسْمَح له باللعب ، وهو لم ينجزها .
- المبالغة والتضخيم : كأن يبالغ الطفل في وصف والده ، وعمله ومرتبته ، أو وصفه بيته ، أو ما لديه من ألعاب ، قصد التفاخر ، أو كي لا يبدو أقل من غيره .
- الاختلاق : وهو رواية شيء لم يحدث أصلا . مثل أ ن يحكي الطفل مغامرة على أساس أنه قام بها ، وهو لم يفعل .
- أن يروي قصة ، بعضها صحيح ، وبعضها من ابتكاره واختلاقه . وذلك يحدث كثيرا عندما يكون الطفل دو أسلوب جيد في الكلام ، فيحب أن يُبَيّنَه
- الاتهام والتلفيق : وهو أن يتهم الطفلا غيره بفعل ما خوفا من العقاب ، أو حتى يرى الآخر يعاقب
أسباب الكذب
الطفل يولد على الفطرة ، أي أن الكذب ليست صفة فطرية فيه ، بل يكتسبها مع الوقت إما نتيجة لحوادث ومواقف تحصل معه ، أو اقتداء بغيره . ومن أسباب كذب الأطفال مايلي :
- الخوف من العقاب : وذلك تهربا من العقاب والتوبيخ على سلوك أو تصرف معين .
- الانكار : لتجنب الذكريات المؤلمة ، والخيالات .
- التقليد : فالطفل في مراحله الأولى يكون شديد التقليد للكبار ، وإذا كان من حوله يكذب ، فسيطبع بطبعه لا محالة ظنا منه أنه سلوك سليم مادام يصدر من الراشدين .
- التفاخر وشد الانتباه : يعمد الطفل إلى الكذب والاختلاق أو المبالغة حتى يحصل على إعجاب غيره ، ويستحوذ اهتمامهم .
- اختبار الواقع : وذلك حتى يعرف ويفهم الفرق بين الواقع والخيال .
- حماية الاخرين: وذلك حتى يحمي أشخاصا آخرين ويغطي عنهم
- العداء تجاه شخص معين : كأن يتهم غيره بما لم يفعل بسسب عدوانيته تجاهه
- المصلحة والرغبة في شيء معين : إذ يكذب كثير من الأطفال بغرض الحصول على مايريدون
- وصفه بالكذاب : فعندما ينادى الطفل دائما بال”كاذب” ، فإنه يقتنع في قرارة نفسه بأنه كذلك .
- عدم الثقة : وذلك عندما لا ييثق الوالدان بما يقوله الطفل ، ولا يصدقانه ، حينها يلجأ للكذب .
طرق الوقاية من الكذب
يمكن للوالدان أن يجنبا الطفل صفة الكذب ، وذلك كالآتي :
- لا تجبر الطفل على الاعتراف ، فشعوره بأنه وسط تحقيق هو المجرم فيه يدفعه للكذب اتقاءا للعواقب . لذا بدل أن تطلب الحقائق من الطفل نفسه ، ابحث عنها من مصادر أخرى ثم واجهه مباشرة بما تعرفه لتضعه أمام الأمر الواقع ، ولا يكون بذلك مجبورا على التلفيق أو الإنكار .
- يجب على الكبار أن يتحروا الصدق في كل تصرفاتهم ، لأنهم القدوة والمثال ، حتى يشجع ذلك الطفل على الصدق .
- ناقش السلوكات الحسنة والأخلاق باستمرار مع الطفل ، وبيِّن من خلال النقاش ما يجب أن يكون عليه ، ومايجب أن يتجنبه ، فذلك يعزز أخلاقه ، وينفره من كل خلق دنيء.
- تجنب الشدة ، والعقاب القاسي ، والتوبيخ المستمر ، والنقد الدائم ، لأنها من أهم الأسباب التي تدفع الطفل للكذب ، حتى يتجنب العقاب ويحرز الثناء . وبدل ذلك ، الجأ إلى أسلوب الحوار ، والمدح على كل تصرف حسن ، حتى يحس الطفل بالأمان ، ويعترف بالحقيقة من نفسه .
- حاذر أن تكذب على الطفل بأي شيء . مثلا أن تعده بإحضار هدية ، أو أخذه في نزهة إن بقي هادئا حتى تنهي عملك ، ثم لا توفي بوعدك بعدها . أو أن تطلب منه إحضار شيء كي تصرفه حتى تخرج من البيت دون أن يلح على مرافقتك . مثل هذا التصرفات التي تصدر من قدوة للطفل ، تجعله يستسهل الكذب ، ويراه عاديا . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم شديدا في الحث على الصدق ، وتجنب الكذب من الصغار والكبار على حد سواء ، فعن عَبْدُ الله بنُ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه قال : ” دعتْني أُمي يومًا ورسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قاعدٌ في بيتِنا فقالتْ: ها تعالَ أُعطيكَ، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : وما أردتِ أنْ تعطيهِ ؟ قالتْ : أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : أما إنك لو لمْ تُعطيهِ شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ ” رواه أبو داوود وصححه الألباني .
- لا تصف الطفل بالكذاب أبدا ، لأن ذلك يفقده ثقته بنفسه ، يجعله يصدق فعلا أنه كذاب .
العلاج
- ساعد الطفل على اكتشاف قيمة الصدق ، وعقاب الكذب . وذلك عن طريق العقوبات والمكافآت . فيتعلم الطفل مع التجربة أنه سيعاقب إن كذب أو تستر على أمر ما ، كما أنه سينجو من العقاب إن قال الصدق ، وقد يكافؤ على شجاعته واعترافه ، ويجب أن يَطْمَئِنَّ دائما بأنه إن قال الصدق فهو آمن . ومع الوقت لن يلجأ الطفل إلى الكذب أبدا ، وسيتحرى الصدق في أقواله وأفعاله ، لأنه مع التجربة سيؤمن يقينا أن “الصدق ينجي صاحبه “.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطَّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة، لم يزل مُعرضًا عنه حتى يحدث توبة ” .
- يجب على الكبار أن لا يستهينوا بكذب الأطفال ، ولا يأخذوه على محمل الجد . بل يجب أن يعلموهم الأخلاق الحميدة ، ويذكروهم بها على الدوام . وأن يبينوا لهم قيمة الصدق ، وعاقبة الكذب . وذلك بقص الحكايات التي تبين جزاء الكاذب ، ونجاة الصادق ، كحكاية الراعي الكذاب ، وحكاية الطفل الذي كان يدَّعي الغرق ، فإذا أقبل الناس لمساعدته ضحك عليهم ، وعندما كاد يغرق فعلا ، لم يأت أحد لينقذه . و هذه القصص وغيرها كثير كانت ترافقنا طيلة طفولتنا ، ولا ينفك آباؤنا وأساتذتنا يعيدونها بمناسبة أو بدون . حتى صار الكذب صفة مذمومة عندنا لا نقربها مهما كان العقاب والحساب . وأتذكر أيضا من بين القصص التي أُعطيت لنا في الصف الثاني الابتدائي ، قصة الطفل الذي تشاجرت أمه مع الجارة ، وعندما قدم أبوه وسأله عما حدث ومن البادئ منهما ، لم يكذب الطفل وأجاب بأنها أمه ، فكبر الطفل في عين أبيه ، وأخذ يمدحه على قوله الصدق ، ما زاد الطفل فخرا وثقة واعتزازا بنفسه .
- يمكن مساعدة الطفل على التفريق بين الواقع والخيال ، وذلك بسؤاله بعد سرده لرواية على أساس أنها وقعت معه : “هل هذه القصة حقيقية أم هي من خيالك ؟ ” . وعندما تعرف أنها غير حقيقية أطلب منه أن يخبرك بالقصة الحقيقية ، وبين له انك لا تعتبر الرواية الخيالية سوى قصة جميلة من تاليفه يستحق عليها المدح . وكذلك عند قراءة قصة ما أو سرد حكاية أوتجربة ، بين للطفل الحقيقية منها والمبتكرة من خيال كاتبها .
- تنمية الوعي الذاتي : وذلك بطرح الوالدين اسئلة متكررة بشأن موقف معين أنكر الطفل تورطه فيه ، أو كذب في جزء منه ، مما جعله يعيد النظر فيما قال ، ويلاحظ بنفسه أين بالغ ، وأين كذب أو أخطأ في السرد .
- معرفة الأسباب جزء مهم من العلاج ن وأحيانا يتضح العلاج بمجرد معرفة السبب ، وقد قيل سابقا : “إذا عرف السبب ، بطل العجب ” . فإذا كان السبب رغبة في الحصول على الثناء والمدح ولفت الانتباه ، فوجب على الوالدين الثناء على الطفل عند كل تصرف جيد يقوم به ، وإعطاء قيمة وانتباه لما يفعله ، حتى لا يضطر للجوء للكذب . وإذا كذب خوفا من العقاب ، فيجب أن يقللوا العقوبة والقسوة ، ويجعلوا العقاب فقط في حالة الكذب ، والثواب عند الصدق . إلى غير ذلك من الأسباب .
وقد ذكر في صيد الفوائد ، بقلم جاسم المطوع ، بعض الأفكار الجديدة في علاج كذب الأطفال ، والتي نوقشت خلال إحدى الورشات . ومن بين هذه الأفكار :
- جعله يتصدق بصدقة على الفقراء أو المساكين ولو من الحصالة التي بغرفته ، كلما كذب ، فيتدرب بذلك على عمل شيء ايجابي بحياته كلما عمل شيئا سلبيا أو أخطأ،
- وضع الفلفل في فمه عندما يكذب ، وعلقت إحدى الحاضرات قائلة ان أمها كانت تهددها بوضع أي طعم آخر لا يحبه .
- تخصيص لباس للكاذب بلون معين كقميص أحمر أو ثوب أصفر يلبسه كلما كذب، فتكون علامة له ولإخوانه ويسمى هذا القميص (قميص الكذب).
- أن يجعل الآباء علبة فيها حلويات وكاكاو ،و كلما كان صادقا في حديثه، يزيدون في الكمية ، حتى يتحفز للصدق دوما .
- اتباع طريقة المكافأة بالنجوم ، وكلما كذب يخصم منه نجمة
المراجع
- شارلز شيفر و هوارد ميلمان ، “مشكلات الأطفال والمراهقين وأساليب المساعدة فيها”
- عبد الكريم بكار ، “مشكلات الأطفال ، تشخيص وعلاج لأهم عشر مشكلات”