منوعات

السلام بين الأقارب .. وتعليم العجائز

مساء أمس ، و في جلسة سمر عائلية ، كالتي خرج من رَحِمِها هذا الموقع ، أخذنا نتجاذب أطراف الحديث بينما نمتص ألواح المثلجات الباردة بنكهة الليمون . وشرعنا نقفز كنحل الربيع من زهرة إلى زهرة ، و من موضوع إلى آخر ، حتى فتحنا فجأة موضوع السلام بين الأقارب .

لا أدري كيف قادتنا أمواج الحديث إليه ، لكننا توقفنا قرابة نصف ساعة عند محطته ، ولم نبرحها إلى غيرها حتى سردنا جَمْعًا من القصص والتعليقات حوله .

السلام بين الأقارب عادي ؟!!

قبل أن أسترسل في الكلام عن الموضوع ، وحتى لا يفهم القارئ كلامي خطأ أو يحمله على غير محمله ومعناه . سأوضح أن قصدي من سلام الأقارب ليس إلقاء التحية من بعيد وبكامل الستر والحجاب ودون الخلوة ، فهذا جائز ما أمن صاحبه الفتنة . الاختلاط كما أقصده بالقصص القادمة ، هو الاختلاط غير الجائز ، والمصافحة ، والخضوع بالقول ، وغيرها مما لا يجوز فعله مع غير المحارم .

سويدي مسلم يعتزل السياسة بعد رفضه مصافحة النساء | قناة الغد
السلام بين الأقارب غير المحارم والمصافحة

في غمرة تعجبه قال أخي لصديقه :

” أَتُسَلِّمُ على بنات خالك وعمك بشكل عادي ، وتختلطون ببعضكم كما الإخوة والأخوات ؟ ” ،

ليرد الآخر مستغربا من استغرابه : ” وما الضير في ذلك ، الناس كلها تفعله ، السلام بين الأقارب عادي جدا عند الجيمع . أنت وعائلتك فقط من يختلف عن الآخرين ، كأنكم من عالم آخر ”

” لكن هذا لا يجوز شرعا ، فَهُنَّ لَسْنَ محارمك ، وينطبق عليهن ما ينطبق على كل النساء الأجانب عنك من غير المحارم ”

” من قال لك هذا ؟ ”

” إليك الفتاوي السلام بين الأقارب

و “بَمْم” خرس الآخر واقتنع ، لكن مايفعل لتجنب ذلك ؟ وعائلته كلها تؤمن بضرورة السلام والكلام والاختلاط ، فَهُم قبل كل شيء عائلة ، ولا حدود تفرقهم أو تضيق علاقتهم .

كان هناك طرف آخر يسمع النقاش الحاد بصمت ، ولم يُدلِ برأيه حتى سأله أخي مستفسرا وآملا أن يجد نصيرا له : ” ماذا عنكم ؟ ”

ضحك الآخر ضحكة ذات معنى ، وقال : ” أما عني ، فبينما أنا مستلق على السرير بغرفتي ، تقفز ابنة الجيران من نافذتها لنافذتي ، تُلقي السلام سريعا ، وتكمل طريقها داخل بيتنا !!! “

تخيلوا معي .. في الحقيقة تعبيره بليغ للغاية . فإن كان هذا تصرف ابنة الجيران ، فكيف ببنات العائلة ؟

على كلٍّ .. قضية السلام هذه والاختلاط بين أولاد العم والخال وبناتهم ، وجدتُها أمرا عاديا عند كثيرٍ من صديقاتي ، بل أغلبهم ، و إخوتي أيضا لاحظوها في أصدقائهم ، وليست القصة أعلاه إلا واحدةً من الشواهد .

لا أعرف هل هو جهل بالدين ، أم تماشٍ مع العادات وركنٌ لأحكام الدين في الزاوية ، وتجاهل لها في ما ينافي المعتاد .

حربٌ على العادات ..

مع استمرار النقاش ، حكت أمي كيف أبطلوا هذه العادة في أسرتهم بعدما بدأ الناس يعرفون الدين ويخرجون من جهلهم بأحكامه ، فقالت :

” كنا كغيرنا من سكان المدينة ، نرى السلام على أبناء عمومتنا وأخوالنا عادة لا مشكلة فيها . وكان الجميع خاصة في الأعياد يقصدون بيوت العائلة الواحد تلو الآخر ، معايدين مُسَلِّمِين .

سارت الأمور على هذا النحو لسنوات . لكن عندما كبرنا قليلا ، وتفتحنا على الدين ، ودرسناه ، علمنا فداحة ما نفعله ، وقررنا نحن البنات (تتكلم عنها وعن أخواتها وبنات أعمامها وأخوالها ) أن نضع حدا لسيل العادات الخاطئ .

في ذلك العيد الذي تلا اتخاذنا لهذا القرار .. جاء أبناء العائلة وقد تعدى معظمهم الثلاثين ، ليسلموا كعادتهم . في بيتنا (أي بيت أمي ) لم تَبْدُ الأمور غريبة كثيرا ، لأن العجائز وكبيرات النساء قد استقبلن الزوار كالمعتاد ، ولم تتخلف إلا بنتان . لكن في بقية المنازل ، استغرب الرجال تهرب البنات من مقابلتهم والتسليم كالعادة ، واغتاظ بعضهم بسبب التصرف السيئ الفظ بحقهم ، وهم يقومون بواجب صلة الرحم .

لم تَنْجلِ سحابة الغيظ تلك والاستغراب إلا عند بيت خالتي ، الذي صادف قدومُ الرجال للمعايدة فيه خلوه من كباره ، ولم تكن هناك إلا البنات ، اللواتي أحجمن عن الخروج إلا واحدة . إذ خرجت وضَيَّفَتْهُم كالمعتاد وجلست تشرح لهم سبب تهرب البنات من السلام المبالغ فيه والمخالف لتعاليم الدين .

عندها فقط ، انفرجت أسارير الرجال ، وأشاد أكبرهم بتصرفها الحكيم ،إذ بينت لهم الأمور ، وقال : ” نحن أيضا نريد تعلم ديننا ، وقد كان أجدر بالأخريات أن يوضحوا لنا الأمر لنتقيد به ”

مع الوقت صار عدم الاختلاط والسلام المباشر أمرا عاديا ، بل وواجبا في الأسرة ، مع أن جدتي لم يُعجبها الأمر واتهمتنا بإفساد روابط العائلة ، وفك جَمْعِها وتفريق شملها ”

ما أصعب تعليم العجائز !!

آخر نقطة في قصة أمي عن جدتها جَرَّتْنَا إلى موضوع آخر ، وهو صعوبة تعليم العجائز ، وإقناعهم بالخطأ الذي يغلف كثيرا من عاداتهم وتصرفاتهم .

هل جربت – يا من يقرأ هذه السطور – أن تقنع جدتك أو أي عجوز أخرى خاصة جدات جيل السبعين والثمانين والتسعين ، هل كان إقناعها سهلا ؟

لا أعرف كيف كانت تجربتك ، لكنّ كثيرين ممن أعرف يرونه صعبا ، وأحيانا مستحيلا . أن تقنع عجوزا في السبعين بأن شيئا كانت تفعله طيلة تلك السنوات خاطئ لا يصح ، أو به خلل ما ، أو أن تخبرها بأن تلك العادة التي لا تستطيع تركها بدعة لا تجوز ، سيبدو لها كارثة بل طامة كبرى ، وقد تذيقك الويلات بعصاها العريقة إن كانت من ذوات المزاج الصعب والطبع الحاد .

جدة أمي مثلا كانت مريضة في آخر عمرها ، والماء الكثير يضرها ، لذا نصحها أحفادها بالتيمم بدل الوضوء خوفا عليها ، وحاولوا إقناعها بأن الله رخص لمن هم في مثل حالتها التيمم ، لكنها رفضت بحدة وصرخت فيهم قائلة : ” تضحكون علي ؟!! ، أنا قادرة على الوضوء ولا تهمني فلسفتكم في شيء ، على آخر عمري يريدون مني ترك الوضوء ” .

وبالفعل لم تتركه ، لكنها زيادة على الوضوء كانت تتيمم كتأكيد على طهورها . وليس أي تيمم !! كانت تتيمم تماما كما تتوضأ ، أي تقوم بكل حركات الوضوء من غير ماء . ومهما حاولوا إقناعها بأن التيمم أسهل من ذلك ، وأن الوضوء يكفيها ، سفهت رأيهم ، وأصرت على ما تفعل .

صديقة أختي كانت تعلم العجائز في المسجد ، ومع كثرة أسئلتهم قررت دراسة العلوم الإسلامية في الجامعة لتتفقه أكثر ، وتستطيع الإجابة عن تساؤلاتهم الكثيرة .

بعد مدة من دخولها ، وبينما هي تعلمهن ، قالت لإحدى العجائز : ” يا جدتي ، يمكنك الصلاة بحذائك بشكل عادي ، ضعي قدمك خارج السجادة فقط ، وصلي ” . عندها رفضت العجوز قولها ، ورأته إن صح التعبير ” كفرا” (طبعا هذا تعبير للمبالغة فقط ) . ثم اقتربت من الفتاة وقالت : ” اسمعي نصيحتي با ابنتي ، قبل دخولك للجامعة كنت تقدمين لنا علما ودينا صحيحا ، لكن بعد دخولك فسد ذلك ، وصرت تُبيحين لنا الصلاة بالحذاء ، أي دين هذا الذي يعلمونه لكم في الجامعة ؟!! ، اتركيها وارجعي كما كنت ”

طبعا هذه بعض المواقف فقط ، وهناك غيرها الكثير ، بل والأعظم . من يُعلم العجائز والجدات يجب أن يكون طويل البال ، صابرا ، والأهم يملك قدرة على الإقناع .

في الختام ..

لم نصل بعد إلى ختام جلستنا ، فقد جَرَّ آخر موضوع مواضيع أخرى ، وحكايات من الزمن الماضي لاننفك نتذكرها ، ونتعلم منها دروسا وحكما ، وعبرا وخبرات لن تجدها إلا في تجارب الماضين ، وأيام المجربين .

وإلى جلسة أخرى ، ودروس جديدة ، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه . وأنتظر مشاركتكم لتجاربكم مع جداتكم ، وتعليقاتكم على الموضوعين . دمتم سالمين .

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى