تاريخمنوعات
أخر الأخبار

إرهاصات النبوة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة :


الحمد لله وحده ، والصلاة والسّلام على من لا نبي بعده ، وبعد:

فإن الله قد أرسل المرسلين ، وبعث النبيين ، برسالاته وبكلامه ، ليرشدوا الناس إلى الصواب ، وعبادة رب الأرباب ، وترك الشرك و نبذ الأوثان ، وإحقاق الحق ، وتفنيد البهتان . ثم جعل خاتمهم رسول الهدى ، والرحمة المهداة ، خير الأنام ، ومسك الختام ، محمدًّا خيَر الورى ، وأجلَّ مَنْ وَطِئَ الثرى ، إمام الأنبياء ، وسيد الأتقياء ، ونبراس الحق . وقد جعل مقدمه بشرى مرتقبة ، إذ أخبرَ عنه المرسلون قبله ، وبشروا الناس بمبعثه ، وبصدق نبوته ، وبتمام رسالته . وكان لنبوته آيات ، ولمقدمه أمارات ، يستدل بها اللبيب ، ويفهم منها ذووا النهى عظيم شأنه ، وجلال قدره ، ودلائل عظمته . فقد مهّد الله لبعثته ببشارات ، وإرهاصات ، قبل مولده وبعده ، وفي كل أحواله وشؤونه ، حتى يعي من وعى ، ويفهم من فهم ، و يرتقبوا  قدومه ، ويتبعوا دعوته . 

وسنذكر في هذا البحث المتواضع أصح ما ذكر الرواة من الإرهاصات . ونسأل الله أن يتقبل منا هذا العمل ، وينفعنا به ، ويوفقنا لما هو خير ، والله ولي التوفيق ، وهو المستعان وعليه التكلان . 

إرهاصات النبوة


مما اقتضته الحكمة الإلهية أن ترسل بعض البشارات والدّلائل تخبرنا عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسنذكر منها مايلي : 

بشارات الأنبياء والمرسلين به :

كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ

حادثة الفيل : 

إن هذه الحادثة معروفة ومشهورة وثابتة في الكتاب والسنة ، والتي أراد فيها أبرهة الأشرم أن يحطم الكعبة و تجلى ذلك في قوله تعالى : “ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل( 2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول  (5) “

قال الماوردي: “آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل”.

وقال ابن كثير: “هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال “

وهذا العام الذي اشتهر بعام الفيل هو العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشهور . وجاءت هذه الحادثة على ماقيل توطئة لبعثة  ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

البشارات في يوم المولد 

لقد صاحب ولادته صلى الله عليه وسلم بعض الحوادث الدّالة على نبوّته ، وماثبت منها بطرق صحيحة ، قوله صلى الله عليه وسلم :” أنا دعوة إبراهيم ،وبشرى عيسى ، رأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام “

وجاء في رواية مرضعته حليمة السعدية عند ابن اسحاق وابن سعد وأحمد والحاكم ، أن والدته آمنة قالت:” وقع حين ولدته ،وإنه لواضع يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء ” وفي رواية :أن أمه عندما ولدته ووضع تحت برمة ، كعادة أهل الجاهلية ، فلما أصبحت نظرة إليه فإذا البرمة قد انفلقت اثنين ، وإذا هو قد شخص بصره ينظر إلى السماء .

وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله ﷺ، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله ﷺ فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة . وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر – هو الواقدي – حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري.

وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها. وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة. وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس:

دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به – تعني رسول الله ﷺ – فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.

وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء

قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها – وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال: إن عبد الله هلك والنبي ﷺ ابن ثمانية وعشرين شهرا، فالله أعلم أي ذلك كان – فقالت: قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:

الحمد لله الــــــــــذي أعطـــانــــــي
قد ساد في المهــــد على الغلمــــان
حتـــــــى يكون بلغة الفتيـــــــــان
أعيذه مــــــن كــــل ذي شنـآن
ذي همـــــــة ليــــس له عينــــــان
أنت الذي سميـــــت في القـــــرآن
هذا الغلام الطيـــــب الأردان
أعيذه بالبيت ذي الأركـــــان
حتـــــــى أراه بالغ البنيــــــــان
مـــــن حاسد مضطرب العنان
حتــــــى أراه رافـــع اللســــان
في كتـــــب ثابتـــــــة المثــــاني

ومن كرامته أيضا أنه ولد مختونا فلم يطلع أحد على عورته .

فيما وقع من الآيات ليلة مولده 


حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله ﷺ، وحين أنزلت الفاتحة.

قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ﷺ قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟

فقال القوم: والله ما نعلمه. فقال: الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه.

فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا. فالتقى القوم، فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟

فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا: أخرجي إلينا ابنك فأخرجته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا له: مالك ويلك؟

قال: قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش، والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب .

ومما لم يثبت من الروايات ،أنه عندما ولد سقطت أربع عشر شرفة من إيوان كسرى ،وخمدت النار التي كان يعبدها المجوس ،وغاصت بحيرة “ساوة” وانهدمت المعاب التي كانت حولها .

البركات التي حلّت على مرضعته حليمة السعدية :


 تتحدث حليمة أنها لما عُرض عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في البداية أعرضت كما أعرضت بقية المراضع لأنه كان يتيمًا، وما عسى أن يأتي من وراء اليتيم. ولما لم تجد ما تأخذه عادت وحملت هذا اليتيم، وما إن حملته حتى أقبل عليها ثدياها بالحليب، وإذ بناقتها التي لم تكن تحلب منذ زمن إذا بها حاقل أي مليئة بالحليب، فقال لها زوجها: تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة. ثم تقول حليمة: ثم خرجنا وركبت أتاني (أنثى الحمار) وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما لم يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي قلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟! فقلت لهن: بلى والله إنها لهي هي. فقلن: والله إن له لشأنًا!!

قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له: مولى الحارث بن حاطب. قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت:

قدمت مكة في نسوة، وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد، نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء، كانت أذّمت بالركب ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبض بقطرة.

وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله ﷺ فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه، قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.

فقال: لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة. فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة.

فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيرا، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟

فأقول: نعم والله إنها لهي، فقلن: والله إن لها لشأنا، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فتحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعا، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا.

فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم، فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة. 

حادثة شق الصدر :


قد روى أبو نعيم الحافظ في (الدلائل) من طريق عمر بن الصبح – وهو أبو نعيم – عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب، متهم بالوضع، فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به.

ثم قال: وحدثنا أبو عمر بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا سأل النبي ﷺ فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟

قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم.

فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة.

فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيرا لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام. 

اعتراف بحيرا الراهب بنبوته ووصيته لأبي طالب :


قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله ﷺ – فيما يزعمون – فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدا – كما قال – فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى – وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم – حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله ﷺ في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.

ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله ﷺ حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم.

فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟

قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله ﷺ من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.

فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.

قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.

قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

قال: فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.

فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.

فقال له بحيرى: فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله ﷺ يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرى: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.

قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

حماية الله له من حضور المنكر والخمر والفحش  وعصمته من عبادة الأصنام:


قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله ﷺ يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

وكان رسول الله ﷺ – فيما ذكر لي – يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:

« لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليه إزارك.

قال: فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي ».

وهذه القصة شبيهة بما في (الصحيح) عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله ﷺ ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله ﷺ: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء.

ثم قام فقال: « إزاري ».

فشد عليه إزاره.

أخرجاه في (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق.

وأخرجاه أيضا: من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت.

قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال: فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت:، ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال:

« إني نهيت أن أمشي عريانا ».

قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.

وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:

« ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت: ليلة لبعض فتيان مكة – ونحن في رعاء غنم أهلها – فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟

قالوا: تزوج فلان فلانة.

فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟

فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت.

ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت: فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي.

فقال: ما فعلت؟

فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته ».

وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره:

« حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته » مقحما، والله أعلم.

وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح. قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك، والله أعلم. 

وقد عصمه الله تعالى من السجود لأي صنم أو الشرك بالله كما كان يفعل قومه .

سلام الشجر والحجر له :


قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي -وكان حافظاً- عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد عن البيوت، ويفضي إلى شعاب بين جبال مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! قال: فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلَّا الشجر والحجارة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان”.

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة، كان يسلم علي قبل أن أُبْعَث، إني لأعرفه الآن) رواه مسلم. قال النووي: “فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة:74)، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} (الاسراء:44)، وفي هذه الآية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقة ويجعل الله تعالى فيه تمييزاً بحسبه”. 

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله) رواه الترمذي. وقال عبد الله بن مسعود: “كنت أمشي في مكة، فأرى حجراً أعرفه ما مرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلا وسمعته بأذني يقول السلام عليك يا رسول الله”. قال السهيلي: “وهذا التسليم الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون الله أنطقه إنطاقاً كما خلق الحنين في الجذع”.

ولم تقف الدلائل النبويّة مع الجماد والحجر عند حدود النطق والكلام والسلام عليه صلى الله عليه وسلم فحسب، بل امتدّت لتشمل الحب والشوق، والمشاعر والأحاسيس، فعن سهل رضي الله عنه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه) رواه البخاري. وروى أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصِّديق وشهيدان) رواه البخاري، و(الصِّديق) هو أبو بكر رضي الله عنه، و(الشهيدان) هما عمر وعثمان رضي الله عنهما، وقد ماتا شهيدين. 

قال ابن القيم بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام: “وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين، مع بُعد العهد وتشتت شمل أمّتيْهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ومعجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونقلُها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن؟”. 

حديث ميسرة وتجارته المربحة مع خديجة 


قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما بلغها عن رسول الله ﷺ ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة.

فقبله رسول الله ﷺ منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله ﷺ في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.

فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع رسول الله ﷺ سلعته – يعني تجارته – التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة – فيما يزعمون – إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا.

وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها، فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول الله ﷺ فقالت له – فيما يزعمون – يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.

فلما قالت ذلك لرسول الله ﷺ ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام. 

الرؤيا الصادقة قبل البعثة :


قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

قول أم المؤمنين عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبيد بن عمر الليثي، أن النبي ﷺ قال: «فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني».

وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.

وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جناب بن الحارث، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد.

وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه. وهو كلام حسن يؤيده ما قبله، ويؤيده ما بعده.

حب الخلوة :


تقول عائشة رضي الله عنها: “ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ”.
وصياغة عائشة رضي الله عنها تُوحي أن تحبيب الخلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعد الرؤيا الصادقة، التي كانت قبل البعثة بشهور ستة؛ بينما في رواية ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجاور -أي يعتكف- في غار حراء في شهر رمضان من كل سنة، فكان يختلي في غار حراء قبل الرؤيا الصادقة، فكيف الجمع بينهما؟
غالب الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان بالفعل يختلي في غار حراء بنفسه شهرًا في السنة لعدَّة سنوات قبل البعثة، وليس عندنا دليل ثابت يُحَدِّد عدد هذه السنوات، ويبدو أنه كان يأخذ معه طعامًا كثيرًا يعطي منه للمساكين الذين يذهبون إليه في هذا المكان البعيد فيتصدَّق عليهم؛ ونلحظ هذا في رواية عبيد بن عمير في ابن إسحاق حين قال: “فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلَّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ”.


ولكن في الشهور الستة الأخيرة حُبِّب إليه الخلاء كما تقول عائشة رضي الله عنها، وهذا يحتمل أمرين:


أمَّا الأمر الأول فهو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم الآن مشتاقًا إلى الخلاء، محبًّا له، وكان قبل ذلك في مرحلة سابقة؛ وكأنه يدفع نفسه إليه، للتفكُّر في الله، وكيفية عبادته، أمَّا الآن في هذه المرحلة فقد صار محبًّا للخلاء، باحثًا عنه؛ ونحن في مراحلنا الإيمانية قد نمرُّ بمثل هذا، فقد نفعل عبادةً ما كالصلاة أو الصيام أو النفقة أو العمرة فقط لأن الله أمرنا بها، فهي بالنسبة إلينا كواجب يتحتَّم علينا فعله، ولكننا قد ننتقل إلى مرحلة إيمانية أخرى نشعر فيها بالحبِّ الشديد لهذه العبادة؛ حتى إننا ننتظر وقتها بفارغ الصبر، فهذا هو ما نقصده عند حديثنا عن حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلاء في المرحلتين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الحبَّ كان مخالفًا لأعراف الناس وطبيعتهم، فلم يكن هناك مَنْ يفعل ذلك من أهل مكة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأنَّ المكان الذي اختاره موحش وقفر ومخيف، وقد اشتُهِر في العرب أمر الجن والشياطين؛ فكانت هذه الأماكن البعيدة أماكن مرعبة لكل أهل مكة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى أن الباحث عن الحقيقة لا يذهب عادة إلى مثل هذه الأماكن، بل يذهب إلى أهل العلم؛ ولكن هذا لم يحدث مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب إلى ورقة بن نوفل، أو زيد بن عمرو، أو غيرهم ممن يتكلمون في أمور العبودية لله عز وجل؛ فكل هذا يُبَيِّن أنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى غار حراء ذهب ليعتكف مخالفًا بذلك طرق الناس وأعرافهم، وهذا الذي تحمله كلمة عائشة رضي الله عنها: “حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ”. أي أنَّ الله عز وجل حَبَّب إليه أمرًا لا يحبُّه الناس في المعتاد.


وأما الأمر الثاني فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد ازداد حبًّا في الخلاء؛ حتى لم يَعُدْ يفعله في شهر رمضان فقط؛ إنما فعله عدَّة شهور من الشهور الستة السابقة للبعثة، ويُؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها: “ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا”. ثم قالت: “حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ”. فمعنى هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة الرؤيا الصالحة كلها -أي في كل الشهور الستة- يُكرِّر العودة إلى غار حراء للخلاء، وأن هذا استمر حتى لحظة مقابلة الملك. ويُحتمل الأمران معًا. 

المراجع 


  1. إسماعيل بن كثير الدمشقي ، “البداية والنهاية – الجزء الأول” ، مكتبة الإيمان بالمنصورة ، الطبعة رقم 257882 .
  2. أ.د. مهدي رزق الله أحمد ، “السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، دراسة توثيقية تحليلية ، إضافات هامة ” ، مكتبة الرشد ، الطبعة الخامسة .
  3. محمد علي قطب ، “إرهاصات نبوة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم “، الدار الثقافية للنشر ، دون طبعة .

بواسطة
manzili.life

الفسيفساء

كاتبة متخصصة في العلوم الإسلامية والتغذية الصحية ومهمتة بعلوم الحاسب والبرمجة وتعلم اللغات الحية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى