عالم الطفل

مقدمة في الإدمان

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ   …   وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ

صَفراءُ لا تَنزَلُ الأَحزانُ ساحَتَها  …   لَو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ

هذا شعر لأبي نواس الذي ارتبط اسمه بالتغني بالخمرة وابتعاده عن عادة العرب في الشعر . فعوضا عن استهلاله قصائده بالبكاء على الأطلال ، يقول في واحدة من أشهر ما قال :

عاجَ الشقِيّ على رسم  يُسائِلُه …   وعُجتُ أسألُ عن خَمّارَة ِ البلدِ

يبكي على طلل الماضين من أسد  … لا دَرّ درّكَ قلْ لي مَن بَنو أسَـدِ

و مَن تميمٌ، ومنْ قيسٌ ولفهما …   ليس الأعاريبُ عندَ اللهِ من أحَدِ

دعْ ذا عَدمتُكَ، واشرَبْها معَتَّقَة ً   …   صَفْرَاءَ تفرق بين الروح والجسد

وقد كان صاحبنا سكيرا يعاقر الخمرة ولا يستحي بالجهر بمعصيته . ورغم ذلك يقال في ما روي عنه ، أن الله ختم له بتوبة نصوح ، وسجلت له أبيات من أجمل ما يذكر في المناجاة ليومنا هذا. هذا إن صح ما نقل عنه إلينا ، منّ الله عليه بالتوبة من هذا الذنب العظيم ، والكبيرة الموبقة.

 الخمر رغم ما يشوبها من سوء ذوق كما يصفها من عاقرها ، إلا أن النشوة التي تصيب شاربها تغويه بها حتى يدمنها ويصعب عليه تركها . لذلك لما جاء الإسلام ، لم يحرمها بشكل كلي في البداية ، بل تدرج في فعل ذلك حتى لا يشق على المسلمين حديثي العهد بها .

ولا شك، أن الخمر أصبح في عالمنا اليوم ، أقل المسكرات وقعا وتأثيرا على الجسم . ليس لأنه فقد خاصية السكر أو الكحول منه ، لكن غيره من المنتجات التي تندرج تحت مسمى المخدرات عرفت الناس على مشاعر أخرى، وأخذتهم إلى أبعاد لا يمكن لمعاقر الخمر الوصول إليها ولو شرب خمر الدنيا كله . ومنها نذكر على سبيل الحصر لا التعميم، الكوكايين، الهاروين، الأفيون، الميثلامين أو Methylamine.
بعض هذه المنتجات، عبارة عن مواد تستخلص من نباتات، وأخرى ببساطة مركبات كيماوية موجهة لتدمير العقل والجسم وإن كانت لها استخدامات طبية قبل ذلك . وهذا المشكل في المدمنين ، يتدرجون في التعاطي ، حتى يعتاد الجسم على ما يتعاطاه يوميا أو بصفة دائمة . فيضطر المدمن إلى البحث عن شيء أقوى ولو كان سما زعافا وهو يعي ذلك، لكنه أسر ووقع في الشباك ، مثل ما يقول المثل “طَاحْ فِي الشَّبْكَة”.

الإدمان الإلكتروني

ما ذكر في المقدمة الطويلة نوعا ما، كان الإدمان المتعارف عليه. تراه في بعض أفراد المجتمع ، وأغلبهم يخفون ذلك . وإن لم تعرف من يعرفهم ، فلن تعرفهم ولن تعرف ما ذُكِرَ قبل قليل .
كان هذا صحيحا قبل اليوم ، لكن للأسف أصبح الصغير فينا يعرف أسماء هذه المواد وذلك لعدم الرقابة الأبوية لما يشاهده أطفالهم على التلفاز أو الإنترنت. لما كنت في السنة السابعة من التعليم الأساسي (السنة الأولى متوسط اليوم) أراني صديق لي، أو زميل لي في القسم قطعة شكولاطة تشبه ما كان يباع في تلك الفترة قطعة الشكولا التي كان ثمنها نصف دينار جزائري أو عشرة دورو. كان شكلها مستطيلا، وعرضها صغيرا جدا، بحجم ثلاث خشيبات جنب بعضها. لكن ما أرانيه كان أقسى قليلا . كنا في حصة الرياضة أنذاك وكنت متعبا من الركض واللعب ، فقمت بخطفها من يده فكسرت لنصفين ، فَهَمَّ بعض من زملائه بنزعها من يدي قبل وصولها لفمي. ثم انفجروا ضاحكين ، مُعلِّمِينَ إِيَّايَ أَنَّها “زطلة”. وأنَّى لِي أن أعرف الزطلة علاوة على شكلها في ذلك الوقت. لم نكن نشاهد لا الأفلام ولا الرسوم التي تتطرق لعالم الجريمة غير الرجل الوطواط (باتمان).

اليوم اختلف الأمر، ومعظم الأطفال اليوم مُخولون بالدخول إلى الإنترنت، أو هذا شعورهم. يعبر عنها سايمن سينك (Simon Sinek) بأن أغلبية الأطفال والشباب من جيل التكنولوجيا والذي يتمثل في جيل الثمانينيات أو نهايتها حتى يومنا هذا، يحسون بأنهم مخولون لامتلاك أو الحصول على أشياء كان يراها الناس قبل عشرين سنة من المستحيلات أو كماليات . ومنها الإنترنت ، الهاتف ، واليوم السيارة وغيرها من الأمور الكمالية.

السوشل ميديا، الأفيون الجديد

10 قواعد لاستخدام السوشيال ميديا.. لا تدعها تستنزف...
إدمان السوشال ميديا

لست أنت لأنك تقرأ هذا المقال، وتبحث عن ما ينفعك. لكن أغلب بني الإنسان اليوم مشتبك على الشبكة العنكبوتية ، وعنده في جعبته على الأقل حساب على موقع من مواقع التواصل الإجتماعي. وأشهر هذه المواقع الشبكة الزرقاء “فايسبوك”.
ولها زميلات في الصف كثر، يتنافسون على إشغال أكبر عدد منا عن تحقيق أهدافهم والقيام بأشغالهم ومهامهم. ولا يكتفون باصطيادك، بل يعملون على إدخالك في متاهاتهم المبنية على دراسات تسمح لخوارزمياتهم باستدراجك ، ثم تلقيمك ما يغريك وشد انتباهك كلما نويت الرحيل عنهم. وصَدِّق أو لا تُصَدِّق، هناك درس في جامعة ستانفورد وبالدرس أعني تخصصا يجعل من المتخرجين منه محترفي إقناع وسيطرة على عقول البشر. وهؤلاء تستعين بهم أكبر الشركات لتصميم واجهاتها، وخوارزمياتها وكيفية عرض منتوجاتها. فايسبوك ، آنستغرام ، سناب شات ، تيك توك وغيرها من المواقع التي تأكل أوقاتنا من دون فائدة أو عائد مادي إلا على بعضنا من المحترفين في التسويق. وهؤلاء يرون في العيون المشتبكة على هذه المواقع والمنصات ، فرص ربح وكثبانا من الذهب ، وكلما زاد الإنسان تفاهة زاد مدخول هؤلاء.

يوتيوب

  • ” حبيبي، نصيحة من عندي خليك. اليوتيوب كبير عليك ولا تملك شيئا ضده.”

ربما يكون هذا رد بعضكم. يوتيوب على عكس الفايسبوك، فيه وعليه. والإنسان يمكنه انتقاء ما يريد مشاهدته على هذه المنصة. وفيها من العلوم والمقاطع المفيدة الخير الكثير. وخوارزميات الانتقاء عليه تحترم ما يشاهد المستخدم وأنواع القنوات التي يسجل فيه. لذلك لا تزود مقالك كثيرا وتتجرأ على محبوبنا يوتيوب.

ما ذكر قبله فيه ما ينفع أيضا، لكن ما يضر أكثر. والضرر يتحقق من الإدمان وقوة تأثير المنصة في حد ذاتها وصرفها إيانا عن العمل وتحقيق ما نود تحقيقه في حياتنا الواقعية. وهذا عائد لطبيعتها المدروسة كما أسلفنا الذكر، والإنسان ضعيف ويزيد ضعفه لما يشرح ويستهدف في أماكن الضعف.
اليوتيوب فيه الخير الكثير والحمد لله، لكن هلَّا قارنت بين الخير والشر المستطير الذي يملؤ الموقع ؟ نعم تبدأ درس برمجة وتصبر على هضم ما يعلمك إياه المنشئ المحترف الذي تعب في تسجيل عصارة ما تعلمه طيلة سنين عمله أو بحثه. لكن عقلك ونفسك لا يطاوعانك للإستمرار في المشاهدة ، ويعرضان عليك مشاهدة حلقة لأنس تينا ، أو زروطة.

كيف وصلتُ لهذا المكان؟ ” تقولها بعد قضائك ما تبقى من يومك على الموقع المفيد. وأمامك كبش ينطح سيدة عجوز، أو قرد يلعب بذيل قط، أو فستان مغنية تنتظر سقوطه. الأناس الناجحون لم يكن لديهم هذه الأمور من أمثال بيل غايت، ستيف جوبز، إيلون ماسك، وحتى محبوبنا مارك. كلهم كانوا سببا في إنشاء ما نعكف عليه اليوم صباح مساء، لكنهم لا يستعملونه إلا عند الحاجة.

لا أقول أن تتترك اليوتيوب وتذهب للتعلم في مكان آخر، لكن قسِّم وقتك واعرف كيف تستفيد من الأخير. وكن صارما في اتخاذ قراراتك المستقبلية. فالمدة التي تقضيها على هذه المواقع يجب أن تتناسب بشكل عكسي مع نجاحك وتقدمك في مسارك المهني أو العلمي مثلا. فلا يجدر بدكتور في علم ما، أو طالب دكتوراه قضاء يومه أو تضييع ساعاته في مثل هذه المنصات لأنها لن تضيف لعلمه الكثير. بل يجب عليه أن يكون مصدرا أو موردا للآخرين في علمه. وهذا ينطبق على كل من له هدف يود الوصول إليه، لا تتحجج باليوتيوب وطلب العلم فيه أو الفايسبوك. عندما تسطر طريقا لنفسك، اسلكها ودع عنك كل الملهيات.

الخاتمة

هذه خطوة أولى في عالم الإدمان وقد بنيتها على وجهة نظري في الموضوع وما هضمته ممن سمعت عنهم على هذه المنصات من أولي الإختصاص في المجال. وسيكون هناك ما يتبع هذا المقال نتناول فيها النظرة العلمية ، ثم نخوض في بحر الإدمان العصري من استهلاك الأنمي إلى الأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد التي نعكف عليها صباح مساء في عصرنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى