منوعات

لماذا لا أكتب؟

تريد أن تكتبَ لكن لا تجد الوقت؟ اِقرأ إذًا هذا المقال“، مقال كتبه الأستاذ “يونس عمارة” قبل أيام قليلة. ورغم أني انقطعت في الفترة الأخيرة عن متابعة جديده أولا بأول كالسابق (لأني لم أتصفح بريدي)، إلا أن هذا المقال شدني إليه، وضرب وترا حساسا أكره عادة من يعبث بأصابعه الفضولية فيه، لكني تلقيت العبث هذه المرة بصدر رحب وروح “كاتبة”، وها أنا أتحدى نفسي الكسولة المسوفة والخاملة، و”أعفس على قلبي بالشبشب” (كما قال حكيم زمانه غامبول)  لأكتب هذا المقال .

الأستاذ سأل وأجاب، ورمى فأصاب، وسدد فما أخطأ هدفه . ورفعت كلماته المنتقاة غطاء الوهم الذي تتخفى تحته الأسباب الواهية، والأعذار البالية، وتتكاثر في محيطه العفن طفيليات الكسل وجراثيم التسويف .. وأزاح الستار عن وجه الحقيقة فبدت عارية قبيحة، تُواري بيديها سوءاتها وعبثا تفعل، وتتوارى خجلى خلف الجدران فلا تجدها إلا واشية ثرثارة، تعجبها الفضائح حين تتزيى بزي النصائح .. فلم تجد بُدًّا من الخروج عارية سافرة ، وهي تتحسب على الأستاذ الذي كشف زيفها وأظهر زورها .

لما لا أكتب يا سادة ؟

لأسباب لا أحصيها عددا، وكلها إن نظرت إليها بعين العقل سخيفة، أضيع وقتي الثمين في حبكها وفتلها وغزل خيوطها وهي أوهى من بيت العنكبوت ، وأضعف من خيطها الذي لا تبذل جهدا في نسجه وإيقاع غيرها فريسة في شباكه الضعيفة.

الفوضى ..

لا أستمر في الكتابة لأني شخص فوضوي؛ يرتب مهام يومه بمنتهى العناية والتركيز ، ثم يخرب ما رتب في طرفة عين. كطفل قضى وقتا طويلا وهو يصُفُّ قطع التركيب ، حتى إذا أنهاها رأى جواره لعبة أخرى فركل القطع بقدميه، وأقبل على الأخرى غير آبه لما تهدّم.

هذا مثلي يا كرام .. أتبع النظام لأيام، ثم يظهر لي أمر بين الأولويات – ولا أدري إن كان أولوية فعلا أم أقحمته بينها غصبا- فألتهي به وأنسى غيره .. ورحم الله “النظام” فقد كان عبدا صالحا ينصح بذمة وضمير، ولكن “عمك أصمخ[1].

الهروب من الواقع والتسويف ..

أحب الكتابة .. ولم تكن تحلو لي إلا في قاعة الدرس وربوع الجامعة؛ كانت ترويحا و “هواية” ، وكنت أهرب من هم الدراسة وتعب العمل إلى الأوراوق المبعثرة والأفكار المسطّرة. أمّا وقد اتسمت بوسم “العمل”، واصطفت جنبا إلى جنب مع حزمة الأعمال التي تتعلق برقبتي كالغريق الذي ينتظر الخلاص، فقد صارت هي الأخرى هما جديدا، وغما فريدا .. فريد لأني أحبه وأكره أن أُلزَم به ، وأريده ولكن النفس الأمارة تأبى إلا أن تُحجم عنه ككل عمل .

المواضيع موجودة، والأفكار كثيرة، والسوق عامرة .. لن أكذب أبدا وأدعي جفاف الأفكار ، أو كساد سوقها ، لكنه “الهروب من الواقع”، وكسلٌ يجري في العروق، وتسويف لم يُقطَع حبله، ولم يُكسَر نَبله .

ما حيلتي  وحبال “السين”   تخنقني … و “لسوف” خِنْجَرُها ينسل للعظم

إن كان لي سبب في العجز يسقطني …  فإنه  “الهرب’ المقرون بالوهم
(بقلمي)

   وقت الأفكار ..

من الأسباب أو الأعذار الأخرى لعدم استمراري في الكتابة، هو الوقت الذي اُلهَم فيه؛ تأتيني الأفكار يسابق بعضها بعضا ، وتتدفق تباعا، فألجمها في ذهني و أنسجها نسجا مرتبا جميلا، وأرصف كلماتها رصفا متقنا، حتى إذا مر الوقت وجلست إلى مكتبي لأقيدها فرّت مني ، وتفرقت حروفها أيدي سبأ.

الأوقات التي تلمع فيها أفكاري غير مناسبة ( أو أنا التي أحاول جعلها كذلك)، إذ أكون فيها بعيدة كل البعد عن القلم ومفاتيح الحاسوب. وعندما أجلس إليهما تكون الرغبة قد خمدت، والنار قد بردت، والحماس قد اندثر وتبخر، والأفكار قد تبعثرت شذر مذر.

فقد تأتيني وقد أويت إلى فراشي الوثير، وأطبقت جفونا داعبها النعاس، وحام حولها خادم النوم ..

وقد تأتي وأنا أغسل أو أنظف، ولا أكاد أخلص إلا وقد عانقني العجز واحتضنني الفتور، وما أحلى عناق الأول بعد التعب، وأدفأ حضن الثاني بعد النصب.    

وقد تأتي -كما أتت سطور هذا المقال- وأنا أقرأ ورد القرآن، فتشوش علي قراءته، وتمنعني من تدبره . وأدافعها فتعود لتغازل فكري، وتلاعب عقلي، وتتمايل كالمومس أمام ناظري لتصرفني عما أنا فيه من الذكر، وتحرمني تمام الأجر، ولذة قرآن الفجر. وتجعلني أصدق فيها قول العرب الأولين عن شيطان الشعر . وإن كان لها شيطان -كما له – فقد أبلى بلاء حسنا في مهمته، وأتم عمله على أكمل الوجوه. فقد استمرت في الحضور رغم رفضي، وبالمراودة رغم تمنعي، حتى كدت أقسم كما أقسم  “منصور” بحضرة شيطانه : “إنه والله هو .. بمنطقه الناعم كجلد الأفعى، بصوته الهامس كصوت المُرابي اليهودي“، وسيكون لنا حديث خاص عن هذا “المنصور” في مقال آخر ، واعتبروه وعدا لو أردتم ، ف”الحُرُّ حَتّى إذا ما لم يَعِدْ وَعَدَا” كما قال تميم.

الرغبة في الكمال..

 لي عيب آخر وهو رغبتي في الكمال .. أحب أن يكون ما أكتبه كاملا من كل النواحي ، لكني وخوفا من نقصه لا أبدؤه، وإن عزمت البدء يسرقني الوقت في التنميق والتزويق، فإن بدأت لم اُتِمَّ، وإن أكملت لم أُلِمّ.

ولي عادة سيئة – وما أكثر عاداتي السيئة- وهي أني إن بدأت عملا اندمجت فيه (واعْلَم أني ما بدأته إلا بعد شحذ طويل لسكاكين الهمة التي حفيت وأكلها الصدأ)، فيستوحذ على فكري، وتنصبُّ في بحره أنهار أفكاري، فإن انصرفتُ إلى غيره فترت همتي عن الأول، ولم أعد إليه إلا بعد جهد جهيد وشحذ جديد.

هذه أسباب تعثري المستمر في درب الكتابة والتدوين، ولم يخطئ “الأستاذ يونس” أيًّا منها، فكلها وإن تغيرت المسميات، ورُخرفت الأوصاف، وأُلبست ثيابا غير ثيابها، تبقى واحدة.

إلى أين أهرب ؟

إلى أين أهرب من الأعمال؟ إلى جنة الكتب ، عشقي الأبدي وولعي السرمدي. وإن كان الكتاب شيقا فقل على “العمل” السلام، وفي إطار العمل يدخل كل شيء عُلِّق على جبهته “واجب” ؛ البرمجة والكتابة وأعمال أخرى كثيرة أركنها في رفوف مظلمة بضمير معذب يأبى الموت، ويتشبث بيديه المرهقتين بتلابيب الحياة ، فلا ارتاح ولا أراح.

ورغم أني أهرب إلى شيء مفيد ، أسلِّي نفسي عبثا أنه ليس مضيعة للوقت ، لكني في الحقيقة أضعت به فرصا كان يجب أن تُحجَز، وأعمالا تنتظر أن تُنجز ، وأهدافا ضاعت سهامها في كل حدب وصوب، وتاهت في بنيات الدرب.


بالحديث عن مقالات الأستاذ يونس عمارة، إليكم سلسلة مقالاته عن موضوع اليوم، لكل من أحس في قلمه ثقلا على يديه :

________________________________

[1] عمك أصمخ : مثل شعبي يضرب في التجاهل، والأصمخ هو الأصم .

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى