لفتات وثرثرات

دَافِع الخَطرة .. مسيرة الذنوب تبدأ بأول زلّة

مِن أصدق ما قرأت مقولة لابن القيم، لم يتكلف فيها بلاغة ولا بيانا، ولكني أرى –وترون- فحواها عيانًا. كلامٌ اختصر فيه رحلة الأخطاء ومسيرة الذُّنُوب، ولخص الطريق السالك نحو أمراض القلوب. يقول –وسبحان من ألهمه وأفهمه-  : “دَافِع الخَطرة ؛ فإن لم تفعل، صارت فكرة. فدافع الفكرة؛ فإن لم تفعل، صارت شهوة ، فحاربها. فإن لم تفعل ،صارت عزيمة وهمة. فإن لم تدفعها، صارت فعلاً. فإن لم تتداركه بضده،صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها “.

تكون خطرة وتصبح عادة ، والناجي من جعل عاداته عبادة، وأفعاله إفادة،  وسار بخطراته وأفكاره على الجادة. كل أخطائنا تبدأ بخطرة، يؤججها في العقل صوت أو نظرة، وتزرع بذورها لتُنبِت فكرة كُلَّما أَعدْنَا الكَرَّة، وأصررنا على الخطإ المرّة تلو المرّة.  وإذا صارت عادة صعُب ردعها، وتعذّر قطعها، فالعادات قاهرات، ورحم الله الرصافي إذ يقول:

كلُّ ابن آدم مقهور بعادات … لهنَّ ينقاد في كل الإرادات
يجري عليهن فيما يبتغيه ولا … ينفكُّ عنهنَّ حتى في الملذات

وهذه الحقيقة التي كشف ابن القيام نقابها، وأسقط حجابها، ليست حكرا على المُحرَّمَات، والكبائر الموبقات، بل تشمل كل خطإ مهما استصغرناه، وكل تقصيرٍ حتّى لو أنكرناه. هي واقعٌ نراه في أبسط فعلٍ، وأصغر زلل.

لا تكسر أول حد ..

إنك لا تجني من الشوك العنب” .. والمقدمات الخاطئة لا تقود لنتائج صحيحة. فأول كلِّ شيء يقودك لآخره، لذا احرص على البدايات واعتن بالمقدمات. ولا تخطوّن خطوة في طريق خاطئ حتى لا تتجرأ على المشي فيه على الدوام. لأنك إن تجرأت على السير فيه مَرَّة، واصلتَ فيه حتى تأكلك الحسرة!!

عندما تنزلق قدمك من أعلى الدرج، تسقط بسرعة لا يستوعبها عقلك. وستجد نفسك في آخره وبك من الضرر ما الله به عليم، ما لم تتدارك نفسك بسرعة، وتتمسك بأي شيء ثابت في طريقك لتمنع السقوط أو تُقَلِّل حدته على الأقل. هكذا هي الحياة تماما .. تبدأ بأول زلة، ثم إلى مستنقعات ضحلة!!

عندما تتجاوز العتبة الأولى، وتكسر الحد الأول ، يصبح سهلا عليك أن تكسره مرة ومرتين ، وإن لم تفطن ستجد كل الحدود قد كُسِرت أمامك، وأنت في الهاوية!!

ترسم لأيامك مسارا مُعيَّنا .. تصحو قبل الفجر لتصلي القيام، وتَتَبلَّغَ للصيام.. تقرأ ما تيسر من القرآن.. تردد الأذكار وتكثر من الاستغفار.. تصلي وتمارس ما شاء الله لك من التمارين الرياضية، ثم تفطر وتنطلق لأشغالك بهمة عالية، وقد وضعتَ هدفَك نُصبَ عينيك، واقتَدتَ لِجَامَه بين يديك. ثم استيقظت ذات صباح وقد طلع النهار وأفاقت الأطيار، وأنت لا صلَّيتَ ولا استغفرت، ولا تمرنت ولا أفطرت. وقد حان وقت العمل فتقاعست وأجّلت، لأن مزاجك قد تعكَّر، ويومَكَ قد تكدَّر، وعزمك قد تبخَّر!! فتستغفرُ عن ذاك اليوم، وتَجلِدُ نفسك بأسواط  اللَّوم. ثم يَرُوق لك التساهل من حين لآخر، وتتشاغل عن الأشغال بالتوافه حتى يحلو لك التقصير، ويعجبك التأخير.

تتعب من العمل مرة، فتقصد اليوتيوب وتشاهد فيديو مُسَلّيا، وتلحقه بالثاني والثالث فالرابع، ولا تفطن إلا وأنت في السابع، وإذا اليومُ قد انتهى ولازال العمل معلقا على مشجب الانتظار.

الخروج من الحمام ليس كدخوله ..

لو سألت أولئك المدمنين، أو مرتكبي الكبائر، الذين قد تساءلت بينك وبين نفسك كثيرا : لم لا يعودون؟  لو سألتهم ستجد أن نسبة كبيرة منهم تريد العودة .. العودة إلى نقطة البداية والنهاية في آن، النقطة التي كان قبلها شخصا صالحا و”نية” وبريئا ووو… النقطة التي كسر فيها أول حَدّ وتخطى عندها أول سدّ.. وشرب فيها أول جرعة .. واستلم من المال الحرام أول دفعة..

النقطة التي راهن فيها على رجولته بأول حبة مخدر.. وتنفس ملء رئتيه أول سيجارة.. وضرب فيها أول إبرة.. النقطة والتي استسهل فيها الحرمات بأول نظرة .. وأول فكرة.. وأول خطرة.. النقطة التي انقاد فيها لأول نزوة ، وبرَّد فيها نار الشهوة..

النقطة التي استغفر بعدها ثم عاد “مجربا” لأن مرة ثانية لن تضر!! وما عساها تضره الثانية وقد أقسم على الأَوْبَة، ورفع لواء التوبة.. والله غفور رحيم!! وما المشكلة –بربك- في الثالثة؟! “إن الله وِترٌ يُحِبُّ الوِتر”!! وتأتيه اللوعة فجأة بعد زوال المتعة، ويقف أمام نفسه اللوامة محاسبا، فيقول “ويلك أتُراني كفرت”؟ إني من آدم وكل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطائين التوابون، وأنا والله ما أشركت، والله يغفر الذنوب جميعها ما لم يُشرَك به. ثم إنها يا نفس محض سيجارة يستنشقها كل أبناء الحارة، فما أنا إلا واحدٌ من أَلف، وإن عَمَّ الخَطبُ خفّ!!

وهكذا تمضي به الحال حتى يغوص في الوحل، ويقع من حيث لا يشعر في شباك الهلاك.

دَافِع الخَطرة ..

كتبتُ هذا المقال عندما شَارَفَت شمس هذا اليوم على الغروب وحزمةُ الأعمال كما هي، لم يُنجَز منها إلا القليل. وضاع اليوم وأنا أخلق أشغالا تلهيني عن الشغل، وأخترع أعمالا تصرفني عن العمل، وكلها في ميزان الأهداف هباءٌ منثور، وتوافهٌ وقشور تقف حائلا دون الوصول إلى اللب والجوهر.  وبين هذه وتلك ضاع اليوم، وحضر اللوم يوم لا ينفع اللوم.

وفي الختام، همستنا لهذا اليوم: دَافِع الخَطرة ، قبل أن تصبح عادة، وفي الإعادة استزادة!

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى