منوعات

أبو البنات .. قصة قصيرة

أبو البنات .. تسمية نسمعها كثير لكل من كان كل خلفه إناثا. يقولها البعض سخرية ونقدا، والبعض حبا وودا، وآخرون بغضا وحقدا. وبطلنا أحد النماذج التي تتكرر في مجتمع ما زال بعض في بعض أفراده شيء من جاهلية، أين تُعَدُّ البنت رغم صلاحها عارًا، والولد مهما فَجَر فخارًا.

على باب المستشفى ، رجل في الثلاثين يمشي ذهابا وإيابا ، ويمنة ويسرة، يروح ويجيء وهو في قمة التوتر ، وتجتاحه لَخبَطَة من المشاعر لايجد لها تفسيرا. فهو اليوم يستقبل أول أفراحه ، وأجمل أحلامه.. ولي عهده البكر ، وسنده في الشدة واليسر.

وما إن فُتِح البابُ حتى هرع إلى الطبيبة يسأل عن صغيره ، فقالت له بوجه بارد جامد ، اعتاد هذه المواقف وأَلِفَها ، فما عادت تهمه أو تؤثر فيه: “عذار سيدي لقد كان هناك خطأ في التصوير ، ومبارك عليك البنت الجديدة “. هنا ، لم تحمل الرَّجُلَ قدماهُ .. ثَقُلَ لسانُه فما نَبَس بِبِنتِ شفة ، ومن ينظر لشكله تلك اللحظة يراه شخصا أثقله الهم ، وقضى عليه الغم.

ثم إنه اجتر نفسه جرا ، ومشى يسحب أقدامه الواهنة إلى الخارج ، عائدا من حيث جاء ، ماسأل عن الوليدة ولاعن أمها ، بل هام على وجهه يبحث لهمه عن مُفَرِّج ، ولمصيبته عن سلوى. فما وجد إلا أخاه يشكو له كربه ، ويعزيه في مصابه ، ويحمل عنه غما أثقله ، وقصم ظهره .

وكان الله قدر رزق أخاه هذا بولدين ، ثالثهما في الطريق. فما إن سمع ما حلَّ بأخيه حَوقَل واستَرجع ، وأعول وولول، وأدمع واستعبر ، وأقبل يعزي أخاه في حلمه المفقود ، وأمله الموؤود .

ولما رأى الرجل ماكان من أخيه ازاداد على غمه غمًّا ، وعظمت عنده النكبة ، واشتد عليه الرزء . فجلس إلى نفسه سويعات يسائلها وتجيبه ، ويشاورها وتشير عليه ، حتى هداه لله إلى التقبل والتصبر ، عل لله يجزيه على قناعته بالبنت بطفل بعدها ويملأ عليه وقته ، ويرضي غروره ، ويحمل اسمه .

ومضت الشهور والأيام ، والعام تلو العام ، ورزق الرجل في كل مرة بنتا ، يندب حظه إن رآها ، ثم مايلبث أن يتقبلها. وعزاؤه الوحيد أن الطفل المنشود سيأتي يوما ، لتجلو رؤيته هموما تراكمت ، وأحزانا تفاقمت ، ويسلو به عمَّن سواه. لكن لله ، ولحكمة عنده ، وهو العزيز الحكيم ، أبى أن يقر عينه بمراده ، وينوله رجاءه ، حتى اكتمل لديه بناتٌ عشر ، اجتمعن على قلبه ، وأثقلن فؤاده .

لم يكن صاحبنا سيئا ، أو فيه شيء من جاهلية ، فقد كان يأنس بهن ، ويتجلى عنه تعبه إن عتب الباب ، ورأى عشر زهرات في استقباله. تلك على ظهره ، والأخرى متعلقة في عنقه ، وثالثة تبحث في حيوية عن حلوى أحضرها ، ودراهم خبأها. والأخريات متحلقات حوله ، وكل واحدة تريد الحديث بما رأته ، وتروي ما عاشته.

لكنه كان يغتم كلما رأى أخاه مع أولاده الثلاثة ، ويسمع فخره وزهوه ، ويراه يمشي في المجالس مختالا كالطاووس ، ينفش ريشه ، ويرفع رأسه ، وهو يتباهى بأولاده ، ويسرد ما سيكون من أمره في الغد القريب والبعيد، طالما هم يمناه وأسناده. و يزداد كربه كلما عُيِّر بأبي البنات حتى لم يعد يعرف له اسم غيره .  فكان يفرغ مايجتاحه بالجلوس إلى أولاد أخيه ، والإفراط في تدليلهم فوق دلالهم . وكان أخوه ما يفتأ يسب البنات ، ويذم همهن ، ويحشو رأس أخيه بشتى الأكاذيب ، وأغرب القصص ، عن سواد أفعالهن ، وعظم المصائب التي لا تأتي إلا من خلف رؤوسهن .

فصار الرجل شديدا في تربيتهن ، حازما في أمرهن ، خوفا من الفضيحة ، والسمعة القبيحة. وكبر وكبرن ، فما كان خاطبٌ يقرع الباب ، إلا سمع الجواب ، من غير تفكير أو استخارة ، ولا بحث ولا استشار ، حتى لايبقين وبالا على كبده ،و همًّا على قلبه. وبالطبع ذاك بعض من نصائح أخيه النفيسة ، وأفكاره الخسيسة . وكان كلما زوج واحدة انقطع عنها لو لم تسأل ، ولا زارها ، أورآها لو لم تزره .

ومرت السنين ، وكبر الأخوان ، ونابتهما صروف الدهر . ودارت الدنيا دورتها فأفلسا بعد الثراء ، وأتعسا بعد الهناء . وكسدت تجارتهما فلا يستطيعان لها إحياء أو إنعاشا . فا ضطرا إلى التدين فما نفع ، وتراكم عليهما الهم والعيش والدين ، وباعا الثمين الغالي ، والرخيص البالي ، فلا خفف وزره ، ولا قضى ربعه .

فأشار صاحبنا على أخيه ، أن يقصد أولاده ، لأنهم كما قال  ويقول دوما سنده وفخره ، ويمينه التي لا تعصيه ولا تضره . فذهب أخوه وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، وكان صاحبنا معه ، وشهد منه هذا التردد ، فاحتار في شأنه ، واستغرب أمره . وطرق باب الأكبر فأدخلهما والغم كاسيه ، والضجر ماليه ، وما إن عرف طلبهما ، وبان له سؤلهما حتى قام يشكو قلة حيلته ، وضعف ذات يده ، يبكي الشجون ويستبكي العيون ، وهو الغني المبطان ، ذو الجيب المليان . فخرج من عنده اليائسان ، الأب يغطي وجهه خجلا مما كان من أمره ، وانفضاح سره ، على مرأى ومسمع من أخيه .

وقصدا الثاني ، فقال لا أهلا ولا سهلا، وأعرض وتولى ثم أسدل الحجاب وأوصد الأبواب،  وعاد إلى زوجه وأنسابه ، يسمع الثناء ويرقب الإطراء .

وماكان الأخير أفضل ، أو رده أمثل ، إذ وكز الإثنين ، وقال: ” ماكان ينقصنا إلا سائل طَلَّابٌ ، و متسول كذاب ، متى صرت أبي يا هذا ، وأنا ابن الحسب ، وصاحب النسب”.

فرجعا خابين ، وقد انكشف المستور ، وانفضح المغرور. وبينا هما في همهما يوما ، وقد أيسا وأبلسا ، وأسلما أمرهما للرحمن، إذ طرق الباب طارق ، فأوجسا في نفسيهما خيفة ، وهما جازمان أنه أحد الدائنين ،قد طفح به الكيل ، فجاء يذيقهما الويل. فلما فتحا ، إذ بها إحدى بنات صاحبنا قد جاءت بما اسطاعت ، لتعينهما بعدما سمعت بما حل عليهما من مصاب وماهما فيه من العذاب ، وهي التي لا تملك إلا النزر القليل ، والدخل الضيئل .

وأتت بعدها أخواتها بعدما سمعن الخبر ، وأعظمن الأمر . أعطت كل واحدة ماقدرت ، كلٌّ حسب حالها ، حتى اجتمع لهما من الخير الكثير ، وكان لأنسبائه وقفة جليله ، إذ وقفوا معه موقف الرجال حتى يقف على قدميه ، ويستقيم حاله وأمره . ولما رأى الرجل ماكان من بناته بكى بكاء مريرا، وهو الذي سلمهن في غمرة هموهه وأشغاله ، وبكى معه أخوه الذي أكبر في البنات بَذلَهُنَّ ، وأعظم في أخيه تربيته التي أنتجت نساءا وقفتهن وكلمتهن عن ألف رجل. وهو الذي دلل أولاده وبالغ في الدلال ، حتى أخرج للمجتمع أشباه الرجال. فقال لأخيه وهو يذرف دموع الحسرة والندم :

أبا البنات قد حمدت الله ..   على هِبَاتٍ لم تَنَل سواها
وكنتَ خير والدٍ مُرَبِّي …      فأكرمتك يوم ذقت الآها
وانظر إلى كَم قَد رزقتُ من ولد …    لَم ألقَ مِنهُمُ عَضِيدًا أَو سَنَد
أمُدُّ كَفِّي مٌستذِلًّا صاغرا   …  فلم أجد يدا تُمَدُّ مِن أحد
فلتحمدوا الله على ما وهبا  … ولتشكروه ولتجيدوا الأدبا
فلا يهُمُّ هل بنات أم ذكر  …  فالخير في الإثنين لو عَبدٌ شَكَر
وأحسنَ التَّعليمَ والتأديبا …  وكان منهم والدًا قريبا 

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى