لفتات وثرثراتمنوعات

­­العمود الأخير .. يوم في غزة لعائلة من فلسطين

كانوا مُتَحَلِّقِين في الصَّالَة، على حصير يدوي الصنع، حول سفرة الطعام . تَوَسَّطَتهُم شمعةٌ سَكَبَت مِن سَخِينِ الدَّمعِ  ما سَكَبت، فأذاب كبدها حتى كادت تُقبِّل الأرض وقد كانت قبل دقائق تعتنق السَّماء. وترسل ضوءا خافتا خجولا يتمايل على استحياء.

كانت وجبة خفيفة مقارنة بالجوع الذي ينهش بطونهم الصغيرة، ورغم ذلك .. بدت لهم أكثر من كافية لسَدِّه وإسكات عصافير الأمعاء المغردة. لم يكن لتلك العصافير صدًى في آذانهم، فقد غطَّت عليها أصوات الألعاب النارية في الخارج . ومع أن إطلاقها لم يتوقف منذ مدة، لم يهتم أحد لها ، حتى الأطفال الذين اعتدنا منهم حُبها وترقُّبَهَا –على الأقل أولئك الذين ألفناهم في برامج الكرتون-.

كان الأصغر فقط يتذمر، لأنه كان مريضا -بزعمه- بالزكام وعليه أن يحظى بوجبة خاصة وعناية أكبر. كان الولد الوحيد، والمتبقي، ورجل الأسرة بعد موت رجالها، لهذا بعض الاهتمام الخاص شيء واجب وحتمي ويُعَبِّر بشكل ما عن مكانته المهمة لجمع النساء المحيط به. هذا ما جال في ذهنه وهو في سلسلة تذمره. والذي لم يُلَاَقى إلا ببسمة ضاحكة من أمه التي وجدت نفسها مضطرة لتعزيز موقفه حتى لا ينكسر . فهي الاخرى ، في جهة عميقة من صدرها كانت تراه كذلك، السند الوحيد، وعمود الدار بعدما سقطت كل الأعمدة.

أمّا تلك الشقية ذات القرنين، فاستغلت مُوَشَّحَهُ الطويل ونظراته التي تركزت على جدته المستلقية وأمه وأختيه الكبيرتين، لتخطف من صحنه قطعا إضافية من ورق العنب المحبب لبطنها الصغير، وتضعها في جيب سترتها حتى إشعار آخر. تعلم يقينا أنه ما إن ينتبه من سهوته، ويفيق من غفلته، سيفتقد أفضل ما في الصحن، وسيوجه اتهامه مباشرة للممتلئة التي تجلس على الطرف الآخر وتأكل بشهية افتقدها البقية هذا الأسبوع.

أما تلك .. الشابة الحالمة متقبلة المزاج كما اعتادوا وصفها، والتي يُخيل للناظر أنها مهتمة لما تراه في الخارج من خلال “الشُّبَّاك”، أو تتأمل في شغف حركة الأفلاك.. فقد كانت توزع نظرات شاردة على المكان وهي تفكر في الزواج الذي عُلّق موعده إلى أجل غير معروف بسبب الأحداث الأخيرة. ليس سهلا أن ينهدم عش الزوجية، فقد تعبا في بنائه وتجهيزه. لكن لا يهم، كل دار بدلها دار، وإن صعب الشراء فهناك الإيجار. المهم أن تهدأ الأوضاع، ويعود الأمان للقطاع.

فجأة .. وبدون سابق إنذار .. دوّت تلك الصافرة اللعينة، وانقطعت السكينة.. ثم “بوم” كبيرة سَبَقَ فِعلُها صوتَها، وأرواح تحت الأنقاض همست بالشَّهادَة لتُعلِن مَوتَها.

كان يئن من تحت الردم، وأنفه قد تخدّر من رائحة الدم.. الرائحة التي لفرط قوتها غلبت جدار الزكام الذي حرمه من كل طَيِّبٍ لأيام، وأرخى دفاعه أو هجومه –لا فرق بينهما- أمام رائحة الموتى الخانقة.  

الظلام يعم المكان.. والضجة في الخارج هي الخيط الوحيد الذي يربطه بالحياة، إضافة لصوت أنفاسه الثقيلة التي تجد صعوبة بالغة في الولوج لصدره ثم الخروج. اقتربت الأصوات كثيرا، ثم تسلل وسط ظلامه نور مزعج أعمى عينيه المغمضة حتى قبل فتحها. ويد امتدت لتمسك جزءه العلوي، فيما اهتمت أخرى بتحرير أسفله لإخراج أرجله، وانتبه أخيرا أنه لم يخرج بقدمين بل بواحدة، وتخلفت الأخرى لتكون على ما حدث شاهدة.

انتشلته أيدي المسعفين، وحُمِل على عجل إلى أقرب مشفى. في الطريق كان يسأل بما أسعفه به لسانه من كلمات عن عائلته، ولم يلق جوابا شافيا. ثم لم يكن بحاجة لأي جواب، فتلك الأجساد الساكنة التي كانت قربه في المشفى كانت أبلغ من كل إجابة، وأشد ألما من أي إصابة.

اتكأ على الجدار ليقترب منهم، غير آبه بالدم الذي ما زال يبلل يده، والجروح البليغة التي كانت تُغطي جسده. اقترب ليرى أكبر أخواته وقد اختفت ملامحها من الدماء، قد ودعت تقلبات المزاج، وخطط الزواج، لتلحق بالبيت الذي بَنَته وَبَكَته، وكأنها لم تجد لها مكانا آمنا تبني فيه عشها الجديد إلا الجنَّة. ثمّ التفت إلى بقية أخواته، وخنقته غصة حاقدة، وعبرة باردة أبت أن تفارق المحاجر وتغسل جرحه الغائر، وهو يلمح حبة ورق العنب الذي التَفَّت حولها أصابع الصغيرة حتى آخر رمق، وابتسم بألم وهو يتذكر مشاحناته مع الأخرى حول الحبة التي عرف في أصعب مشهدٍ “مختطفها”. وليت الزمن يعود ليخبرها أن كل ورق عِنَبٍ على الأرض فِدًا لَهَا ولِعينِها، المهم ألا تطبقها دونه إلى الأبد.. وما تفيد ليت وقد حكم الموت!!   

آخر نظرة كانت من نصيب أمِّه، تلك التي كانت تراه عمود الدار، ورجلها المغوار.. ولكن يا أماه.. بقي العمود وانهارت الدار، فما عساه يفعل، وأي دار بعد اليوم يحمل!!

يوم في غزة .. فجيعة الطفل بأمه

كان هناك أشخاص حوله، بعضهم يبكي مُصَابه، والبعض الآخر ينفض بمنتهى البرود ثيابه، وعبارات المواساة تُردد من كل فرد.. أصبح كل هذا روتينا مُمِلًّا يُعاش كل يوم وليلة .. فَقَدَ الجُرحُ ألمه، وفَقَدَ الخطب حجمه. لم يَعُد أحدٌ هنا يخاف الأشلاء ويفزع من الأموات، فحتى الموت هنا قد مات!!

وبين تزاحم الأصوات، وتعالي أسماء الأموات.. عادت الصافرة اللعينة تحوم .. وانتهى المشفى بمن فيه بعد دفعتين أو ثلاث من صوت “بوم”.. وسقط آخر عمود لعائلة أخرى في غزة قبل نهاية اليوم.

الحياة تُهدي البعض حظوظا يتعجب منها الحظ!! وَتجُود بإسرافٍ  على البعض بالنحس حتى يتشبع من كأس اليأس.  هذا إن آمنا بوجود الحظ ونقيضه. هي على البعض كثوب مُتقن الصنع حتى لتحسبها فُصّلت على مقاسه.. وهي على آخرين ثوب فضفاض إن مشى فيه تعثر.. بينما حظي البعض منها بثوب يكشف أكثر مما يستر.   وهم منها بين راض وساخط، وناجح في بلائها أو ساقط. لكن هنا في أرض غزة.. لن تجد وقتا للرضى أو السخط، فَقد أسكتهم الموت وسبق السوط!!

فلَكِ الله ياغزة .. لك الله يا فلسطين..

يوم في غزة.. دمار شامل

تعليق ..

القصة أعلاه قد تبدو لمهووسي القصص والروايات حبكة جميلة، أبدع فيها كاتبها وأجاد امتطاء صهوة الخيال وعسفها لتسير على ما يريد. لكنها ليست من نسج الخيال، وليتها كانت.. إنها واقع عاشه ولا زال يعيشه المستضعفون في أرض فلسطين، والأحرار المقاومون في غزة الأبية. واقع مرير يخجل الخيال أمامه، ويرفع مستسلما عنده أعلامه. مأساة كتبتها الدماء، ووثَّقَتها الأشلاء، وشهدت عليها الدور المحطمة والمباني المهدمة .. حتى المستشفيات لم تسلم في شريعة القرود ودستور اليهود من صواريخ الدمار المُستَقدمَة، وقنابل الموت المخضرمة.

كُلُّ البِقَاعِ غَدَت بِلَا أَضواءَ .. صَارَت دَاكِنة..
كُلُّ الأمَاكن أَصبَحَت سَاحَاتِ حربٍ طَاحِنة!!
حَتَّى المَشافي يا طُغاة الأرض ليست آمنة !!

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى