منوعات

قلبي اطمأن

فكرت في كتابة هذا المقال عدة مرات. بدأت كتابته بالإنجليزية، وتقدمت فيه بشكل جيد. لكن قطار التسويف لا يفتأ يدمر كل ما بني، ويدخلك في متاهات لا تخرج منها إلا بشق الأنفس. وتمضي الأيام والشهور وربما السنون، ويعاودك الحنين لما كنت على وشك كتابته أو نشره أو إنجازه، فتكتبه أو تنجزه وتنشره وتشاركه. ربما انتقاما لما فاتك، أو عصبية منك في لحظة حنين، أو مجرد حب فيما تذكرته فأردت نشره. هذا المقال عن برنامج أثار إعجابي شهر رمضان لسنة 1439 أو 1440 هجري. برنامج بسيط وفكرته ليست بالغريبة وليست بالثورية، لكن تطبيقها وفريق العمل المشرف عليها، جعلها تبدو كذلك.

التعريف بالبرنامج

كلوحة أو بطاقة تعريفية بسيطة يمكننا تلخيص البرنامج في ما يلي

الاسم: قلبي اطمأن

المنشط: غيث

منصة النشر: يوتوب (وبعض القنوات)

تاريخ البث: رمضان

عنوان القناة: من هنا

فكرة البرنامج

هناك عشرات البرامج التي تشبه برنامج اليوم. بكل بساطة، يقوم فريق البرنامج بجمع التبرعات ومساعدة المحتاجين بها. يمكنك من خلال هذه المقدمة إعطاءنا أكثر من اسم يجسد هذه الفكرة وأول ما خطر ببالي وأنا أكتب هذه الأسطر برنامج باسم “أيادي الخير”، وهو برنامج جزائري يقوم فيه منشطوه بجمع التبرعات، ثم اختيار عائلة من العائلات المعوزة ومساعدتها وبالطبع كل شيء مصور وكل مرة تحل القافلة في ولاية من ولايات الوطن.

ما الجديد

برامج التلفزيون التي تشاهدها على القنوات العربية والغربية وتجد أنها مشابهة لبعضها البعض، وفي كثير من الأحيان تشمئز مما تراه أو تنكر على بعض القنوات والمنشطين انحطاطهم وتدني مستواهم الأخلاقي. وربما تلومهم وتشارك أصدقائك مجالس النقد والسب والشتم في مثل هذه الممارسات التي تعكس مدى تمسكنا بالعناد والتقليد كالإمعة، وعدم وجود روح الابتكار والاختراع حتى في البرنامج يا سبحان الله . لكن هذا سوق قائم بذاته، وتجارة مربحة لأصحابها. وأغلب البرامج التي تراها لا تقوم بالتقليد فقط مجانا ، بل هناك حقوق تأليف ، وبراءات اختراع وغيرها من الأشياء التي تعود بالملايين وربما الملايير على أصحابها . وخير مثال برنامج “المواهب” الذي يحمل أكثر من نسخة والذي بدأ في بريطانيا. والآن تجد كل بلد ونسخته حتى العرب ، والآن مواهب بأسماء القارات ، وحتى العالم. فما هو الجديد الذي يفرق برنامجنا عن غيره من البرامج؟

ببساطة ، فكرة شخصية غيث !! غيث هذا منشط البرنامج وهو الشاب الذي يظهر في كل حلقة حاملا حقيبة على ظهره ، وعلى رأسه قبعة معطفه والتي تخفي هويته. حتى الصوت عندما يتحدث معدل وهو ليس صوت المنشط الحقيقي، لذلك في بعض الأحيان تسمع صوت الناس في الخلفية مثل أفلام الرعب وحتى الصدى. وهذه ببساطة فكرة البرنامج وجديدها، على عكس البرامج الأخرى. أنت وأنا والمشاهدون، لا نعرف من هو غيث، في رسالة يكررها دائما في آخر كل حلقة، كلنا غيث، أنا كغيث ساعدت هذه السيدة أو الأسرة، وأنت في بلدك، في حيك، في بيتك، يمكنك تقمص شخصيتي والذهاب لتغيث شخصا آخر. تساعده، تفرج همه، تعوده، تزوره، أي شيء فيه صدقة ومعروف.

تقديم المساعدات

كما أسلفنا في الفقرات السابقة، أن البرنامج يقوم بتقديم مساعدات لأناس وعائلات محتاجة ويقوم بتصوير عملية المساعدة مثل باقي البرامج. لكن ما هو معهود في البرامج الأخرى التي ربما تكون قد شاهدت بعضها. أن كل شيء منسق مع العائلة المراد مساعدتها. حيث تجد الأسرة المعنية، جاهزة للتصوير، والكل بثياب نظيفة ومنزل نظيف، ينتظرون كاميرا البرنامج. كما أن أصحاب البرنامج يظهرون الكاميرات وفريق الإعداد والتصوير وكل شيء. ويمكن لك تصور الحرج الذي تسببه هذه البرامج لهؤلاء الفقراء والمعوزين. قبل أن تكون مساعدة، تكون إهانة لكثير منهم، وفضيحة، خاصة للصغار الذين يدرسون، كيف يواجهون أصدقاءهم وزملاء الدراسة بعد كل ما حدث. تصوير للبيت الخرب، ربما الأم تبكي من القهر، الأولاد يحاولون الحفاظ على ابتسامتهم المليئة بالخجل والحياء مثل “داروين” في عالم إيلمور المدهش. وغيرها من الأعراض الجانبية التي يعاني منها أفراد العائلة المساعدة.

في “قلبي اطمأن”، الأمر مختلف تماما. حيث يتم البحث عن المحتاجين للمساعدة دون علم المستفيد. ثم يتم الذهاب إلى المعني وتصوير عملية مساعدته بطريقة ذكية من دون علمه. وحتى طريقة عرض المساعدة فيها حفظ لكرامة الفقير أو المحتاج، ولا يتم إخباره أو إعطاؤه المساعدة حتى نهاية الحلقة. فمثلا، في بعض الحلقات، تجد غيث يذهب لشراء شيء من عند المعني، ويدخل معه في حوار يسأل فيه عن حالة الشخص، عائلته، مدخوله ويشارك معه بعض القصص والحكايات، ثم في الأخير يقدم له المساعدة على شكل شيك، أو عقد عمل أو شيء آخر.

لكنه يصور؟!

سؤال وجيه، نعم يصور، ودون علم المعني. وهذا حتى يتم نقل المشاعر الحقيقة لمحتاج أو شخص في ضيق من العيش وأتته مساعدة دون أن يفقد كرامته، أو يمد يده للناس. بهذه الطريقة تحس بالقهر الذي يعيشه بعض الفقراء في عالمنا الإسلامي، وترى فيهم قوله تعالى: “يحسبهم الجاهل أغيناء من التعفف”. نعم تراها في وجوههم، في طريقة كلامهم، في رفض أغلبهم للمساعدة عندما يقدمها غيث في غير وقتها أو دون تمهيد كاف. تراها في فرحة بعضهم بالفرج الذي يعتبرونه من عند الله وغيث سبب، سخره الله لذلك. وهذا ما يذكر به غيث كلما قدم مساعدة لهؤلاء: “ما نحن إلا سبب، الرزق من عند الله”.

في الأخير وكما شرح غيث، أن فريق الإعداد يُُعلم هؤلاء بفكرة البرنامج وهل يسمحون بمشاركة ما صوروه كحلقة من حلقاته. البعض يقبل، والبعض الآخر يرفض، لكن الكل يستفيد من المساعدة وتكون حلقات البرنامج مبنية على ما قبل عرضه من قبل أصحابه.

محطات أعجبتني وأثرت في

حلقات البرنامج كلها جميلة ومؤثرة. لكن هناك بعض الحلقات التي تبقى في مخيلتك، وذاكرتك، وحواراتها ترن في طبلة أذنك. فكما أن أغلب الحلقات تصور بعد عمليات بحث عن الفقراء والسؤال عنهم. إلا أن بعضها يتم تصويره مباشرة دون بحث ولا هم يحزنون. في بعض هذه الحلقات، وفي طريق تصوير حلقة معينة أو الرجوع من تصويرها، يصادف فريق الإعداد صاحب حاجة. مباشرة يقوم غيث بالنزول إليه ويتم تصوير حلقة عفوية دون تخطيط ومن غير معرفة أي شيء عن المعني. وهذه الحلقات إن كنت تبحث عن رأيي، هي أفضل الحلقات على الإطلاق، وفيها من المشاعر ما يمزق القلب ويقطع أوصاله.

الحاجة ندى

حلقة الحاجة ندى من أفضل وأجمل الحلقات في الجزء الأول. العجوز الكسيفة، بائعة المناديل على قارعة طريق أحد الشوارع المصرية. تبدأ الحلقة وبطلتنا تقرأ القرآن وأمامها مناديلها. يتقدم إليها غيث مسلما عليها، سائلا إياها عن ما تعمله.

  •  أقرا قرآن!!

تجيبه متعجبة بلكنة مصرية تميل معها كل المدود.

  • يا حاجة بتبيعي مناديل؟ 

يسأل غيث. لتجيبه العجوز بالإيجاب، و يستطردان في الحديث والأخذ والرد عن حالة الحاجة المعيشية وعائلتها. حتى يعرض غيث المساعدة على الحاجة، ويقدم لها خمسة آلاف جنيه.

  • يا نهار أسود!! أنت منين؟؟

ترد الحاجة بذهول، ويدها تغطي مبلغ المال في يد غيث وكأنها تقول أستر ما ستر الله يا ولدي. ثم تمد يديها إلى رأسه فتقبله وتعيد عليه سائلة

  • أنت مين؟
  • خذيها يا حاجة.

يلح غيث ويطلب منها إخفاء المبلغ حتى لا يراه الناس. ويعيد لها قبلة على رأسها سائلا الله أن يبارك فيها بصوت تملؤه البسمة وغلبة الضحك على طبيعة الموقف الذي رسمته الحاجة بعفوية ردها وكلامها النابع من شخص ضاع في بحر التساؤلات والتخمينات عن المعجزات الحاصلة في زمن تكذب فيه معجزات الأنبياء المخلدة. وهي تتمعن في وجه الغريب السخي وكأنها تحاول قراءة وجهه وما كتب فيه ربما تجد خيطا يحل الغموض الذي تعيشه.

  • والثلاثين ألف جنيه …
  • يا نهار أسود و مقندل!!! ….
  • اسمعيني …
  • أنت جاي منين؟ أنت جاي منين؟

ثم يغلبها البكاء من هول ما سمعته. بكاء تلمس فيه بعض شك في أن ما يحدث مجرد لعبة، أو عبث تشرف على إخراجه إحدى حصص الكميرات الخفية المتعفنة. تجهش في البكاء بلا صوت تحركت فيه كل وصلة لحم أو نسيج عضلي في وجهها، مبرزة قصتها مع الزمن ومتاعبه في تجاعيد يفهم لغتها قارئها دون الحاجة لتعلمها. وغيث الشاب الحنون، يحاول التخفيف عنها ويطمئنها بحقيقة ما يحدث وأن الهدف من جلوسه معها تقديم يد المساعدة لها فحسب. 

  • والله إنت عارف؟ أنا لما بدعي ربنا، ربنا يستجيب لي ويقولي خوذي! والله أقابل السماء وقولو يارب ريحني … والله أنا تعبت … ريحني من الذل ومد الإيد.

كان هذا ردها وهي تبكي بلوعة وحسرة. بكاؤها خليط من الحزن والفرح. حزن على ما قاسته حتى هذه اللحظة، وفرح فتح الله واستجابة الدعوة، ورفع الحاجة والفاقة.

  • أنا أشتري منك وحدة عشان ما تزعليش.

يحاول غيث ملاطفة الحاجة بشراء علبة مناديل منها. حتى تستخدمها في مسح دموعها. فتقابله بالرفض وتعطيه المناديل كلها “خدها كلها”. بعد رؤيتها سخاء الشاب و عطاءه، تسأله “وديني عمرة” . وبعد حديث لطيف عن أصل الشاب، ينصرف الأخير راحلا ويترك الحاجة تمسح دموعها وتحزم أمتعتها.

بائعة المخلفات

على عكس الحاجة ندى، التي تجلس على قارعة الطريق بهيبة، تبيع بضع مناديل وهي تقرأ القرآن. أمنا الحاجة صاحبة الحلقة الخامسة من الجزء الثاني للبرنامج، تجمع النفايات والمخلفات القابلة للبيع والتدوير والله المستعان. يقترب منها غيث وهي تتقاسم حاوية النفايات مع رفقائها في الفاقة. وكالمعتاد، يدخل معها في موضوع جانبي بسؤاله عن مطعم محترم في الجوار حتى يرسم صورة الغريب، عابر السبيل في مخيلتها. ومنه إلى “تشتغلي إيه؟” يسأل الحاجة عن شغلها طارقا بذلك باب الدخول في كنه ما جاء به. ويدور بينهما حديث يعرف من خلاله أن الأم لها أولاد كل يعيش مع زوجته وتركوها للفاقة تنخر ما تبقى من لحم على عظمها وهي في الخمسين من عمرها. ورغم محاولة غيث صرفها عن جمع القمامة والتركيز فيما يقول، من تطوعه لدفع الدين عنها، وتوفير عمل أو معاش يسد فاقتها، لم تترك الكيس. رماه عنها، فأعادته ووقفت دونه كمن يدافع عن لقمته التي يريد الوحش إفتكاكها منها. وبعد طول نقاش وأخد المواثيق والحلف بأغلظ الأيمان أن لا تعود مرة أخرى لهذا العمل، ظلت الأم متمسكة بكيس المخلفات الذي جمعته وتعبت في جمعه. حتى إذا هم غيث بالذهاب، افتك الكيس منها، ورماه على كتفه وذهب وهي تلاحقه ومعها من يود مساعدتها في إسترجاعه وتنتهي الحلقة وهي تحاول فهم ما حدث وشرحه لمن تضامنوا معها.

وفي هذين الحلقتين أو الحكايتين، كثير من الذرر التي تستخلصها دون المرور بما مرتا به. فالأولى رغم كبر سنها وعجز رجليها، وحالة ابنتها المطلقة، ورعايتها لأفراد أسرتها. لم تسأل أحدا ولم تمد يدها لأحد، وفضلت العفة وبيع ما تيسر من مناديل على قارعة الطريق وقراءة القرآن وتلاوته أمام خلق الله. والثانية، رغم تخلي أبنائها عنها، وعقوقهم لها رغم ترفعها عن ذكر ذلك. فضلت العمل في جمع القمامة وبيعها بدراهم معدودة تسد رمقها آخر النهار. رغم كرهها لتلك الوقفة وهذا وصفها، آثرتها على مد اليد والتضرع لغير الله.

وفي الحلقات الأخرى الكثير من المشاهد التي تمزق القلب، وتقض مضجع من في قلبه وتر سليم، تفيض المآقي بالدموع لتغص بها الحلوق وتضيق الصدور من شدة وطئها وبلاغة معناها. للبرنامج جزء ثالث ولله الحمد والمنة، وهذا معناه أن وراء الغيث سحابا ممتلئا فياضا يأتي بالخير ويسقى من كان في حاجة لقطره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى