منوعات

الغني والفقيرة .. قصة قصيرة

دخل الحي بسيارته الفارهة ، وركنها على غير العادة قريبا من بيته الكبير الفخم. وعلى غير عادته أيضا ، نزل مسرعا بحقيبته السوداء وقد علا وجهه الهم والغضب والتوتر ، وأغلق باب سيارته بقوة لا يكاد السامع يشك أنه انكسر بعدها . مشى مهرولا ناحية البيت ليجدها كما ألف واعتاد ، بثوبها الرث البالي ، ورجلها الحافي المنتعل ، بشبشبها المتمزق ، وشعرها الكث المتفرق ، وقامتها القصيرة التي تناسب طفلة الخمس سنين مثلها ، متعلقة بحاوية القمامة الكبيرة ، تنبش محتواها كما تفعل القطط الشاردة ، علها تجد فيما رمي عظاما علق بها اللحم ، أو جلدا خالطه الشحم ، أو خبزا يابسا ، أو جبنا متعفنا ، أو موزا متلونا ، أو علبة ياغورت لازال بالإمكان لعق أسفلها وجوانبها ، أو علبة عصير لازالت تجود ببعض القطرات التي تبل الحلق ، وتشفي الشوق . وما إلى ذلك مما تجود بها أكياس القمامة الملأى بما ترفعت عنه نفوس الأغنياء ، وأذواق الأثرياء ، و نزلت لها جموع الأشقياء ، والضعفاء من الفقراء ، ووجدوا فيها ما بخلت به عنهم  أيادي المترفين ، وصحون المسرفين .

رآها فثارت شياطينه فوق ثورتها ، و قد جف ريقه ، ونشف حلقه ، وهو يكرر عليها الوعيد إن اقتربت مجددا من بيته . ولكن من يرد المسكينة عن كنزها الفريد ، ومصدر رزقها الوحيد . اتجه صوبها وقد احتقن وجهه وفار ، وتفجر بركان غضبه وثار ، ليوجه لها صفعة دوى صوتها في الجوار ،  وأصابت رأسها بالدوار . ثم انتزعها من الحاوية نزعا ، ورماها عنه كما ترمى القذارة ، ورفسها برجله كما ترفس الكلاب ، وناشها كما يناش الذباب .

بعدها  انحنى ليحمل حقيبته التي أفلتها مع سورة غضبه ، ويجمع ما تناثر منها بعبث وتوتر شديدين . دخل إلى البيت ليحضر ما جاء لإحضاره ، وعاد إلى سيارته ليشق طريقه نحو عمله .

كل هذا والصغيرة تنظر إليه بعينيها البراقتين ، التي زاد لمعانها بحيرة الدموع التي علقت في محاجرها وأبت النزول ، كأنها لا تريد أن تعترف بهذا الضعف الذي يتملك صاحبتها ، أو ترفض الاستسلام للظلم الذي يطولها وذنبها الوحيد أنها تمارس حقها في الحياة وتتمسك به . نهضت أخيرا ، لتنفض ما علق على ثوبها من الغبار ، وتهم بالعودة لما كانت تفعله ، عندما لمحت ورقة بيضاء قرب قدمها ، حملتها ونظرت إليها لتجدها مليئة بالشخابيط التي لم تفهم منها شيئا ، ثنتها وخبأتها في جيب ثوبها وتابعت عملها .

هاهي الشمس تشرف على المغيب ، وتغمض عينها عن عالم تفاوتت فيه المراتب ، وتنوعت الرغائب . وهاهو صاحبنا نازلا من سيارته وقد علاه الشحوب والوجوم ، وتكاثفت عليه الهموم . سار بخطى متثاقلة يجر قدميه جرا ، ليجلس على حافة الرصيف قرب بيته ، ويضع راسه بين يديه ، وقد أحناه ، وشد شعره كمن نزلت عليه مصيبة . وماهي إلا هنيهة حتى أظله جسم صغير ، رفع عينيه ليجدها تنظر إليه بفم باسم وعينين لامعتين ، وهي تمد ورقة بيضاء لايجهل أبدا محتواها ، وهو الذي كان قبل قليل ولازال مستعدا لبذل روحه للعثور عليها ، كيف لا وهو على حافة الإفلاس لأنه أضاعها ، كيف لا ومصيره معلق بها ومستقبل أسرته رهن لما تحويه ، وقيد لما تمليه .

لم يتمالك نفسه في هذه اللحظة أن سالت دموعه الدافئة لتبلل صفحة وجهه ، وتغسل مافيه من كدر وحزن . دموع فرح لانفراج كربه ، وندم لم يظن يوما أنه قد يشعر به تجاه هذه الصغيرة التي طالما زجرها ، وأبى الله إلا أن تكون نجاته على يديها . في غمرة مشاعره هذه ، لم يلق نفسه إلا ضاما لهذا الجسد الهزيل ، وقد عقد العزم على تولي أمورها وسد حاجتها شكرا لفضل الله عليه ، وردا لجميل لن ينساه ما نبض له قلب .

لَا تَنهَر المُحتَاجَ مَهمَا … كُنتَ جَبَّارًا قَوِيَّــا

مُوسِرًا وَالمَالُ يَسرِي … بَينَ أَيدِيكُم سَرِيَّا

جُد عَلَيهِ بِمَا حَبَاكَ … اللهُ كَي تَزدَادَ هَديَا

قَد تَكُونُ اليَومَ مَيـ …ــسُورًا  غَنِيًّا أَو ثَرِيَّا

ثُمَّ تُمسِــي عَائِــلًا … مُتَسَـــوِّلًا تَرِبًــا شَقِيَّا

فَارحَمِ الضُّعَفَاءَ تُرحَم…وَاسْعَ لِلإِحسَانِ سَعيَا

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى