منوعات

رجل وامرأتان .. قصة قصيرة

صاحبنا رجل على أبواب الأربعين ، متزوج من عشر سنين ، وله من الذرية ابنتان ولم يرزق بالبنين. وقد كان راضيا بقسمته ، سعيدا بابنتيه رغم شوقه للولد حامل العهد، ووريث المجد .

لكنّ فكرة جديدة مافتئت تتغلغل في دماغه وتترسخ في ذهنه ، ولا يلبث أن يتناساها حتى يأتي من يذكره بها ويشجعه على جعلها واقعا لا مهرب منه، وحقا لا مفر منه .

وهذا الناصح الأمين ، المهتم بحياته ، الحريص على هنائه؛ هو جاره القريب ، وصاحبه الحبيب ، وناصحه النجيب . الذي لا زال يلح عليه بإعادة الزاوج ، ويزين له محاسن هذا الفعل ، وأولها قدوم النجل العظيم الجحل (الجحل هو السيد من الرجال) ، الراجح العقل.. ثم سكينة وسعادة ، وتحقيق عبادة ، وفي الأجر الزيادة . وكان صاحبنا يمتنع رغم الحنين الذي تفجر في قلبه للولد من كلام جاره ، وشدة إصراره ، والثناء على اختياره . وبعد تمنع ومكابرة ، وتردد ومشاورة ، اتخد صاحبنا قراره ، وهيأ داره ، ودعا زواره ، ليباركو له زواجه السعيد ، وعمره الجديد ، ورأيه السديد.

وقد يسأل سائل عن موقع زوجته الأولى من الإعراب؟ والذي حصل أن صاحبنا عندما قرر وشمر ، أسرع بالتنفيد دون إعلامها بما رسا عليه قارب أفكاره ، وليضعها أمام الأمر الواقع ، فلا يكون لرأيها دور ، ولا لاعتراضها أثر . وعندما علمت الموقرة ثارت ثائرتها ، و قلبت الدار على أهلها . فقام يسوق لها الأعذار ، ويحرِّف الأخبار ، ويسترضيها بالثمين من الهدايا، وأجمل العطايا ، حتى سكتت على مضض ، وقد أضمرت الشر ، وأظهرت الرضا والبِشر .

ولم تكن الزوجة تعلم بمن رسا عليها القرار ، ووقع عليها الاختيار . فقد رفعت يدها عن الموضوع ، وأظهرت الإذعان والخضوع . لكنها صُدِمت عندما رأت ضرتها وعرفتها ، وما كانت إلا عدوتها الشمطاء ، وقريبة جارتها الشنعاء ، التي عادتها دوما ، ولم تألفها يوما . امرأة ظاهرها بريء فاتن ، وجوهرها خبيث آسن .لا يعرف حقيقتها إلا من عرف أذاها ، ولحقه شرها ، ومَسَّهُ ضرها . وإلا فهي عند الجميع الملاك الطاهر ، والوجه الناضر ، والحديث الساحر . وهي كما يقول المثل “حية من تحت تبن “، وحرباء تتبدل حسب المكان وتغير الألوان .

وكان صاحبنا سعيدا فرحا بما حصَّل ، فخورا بما حصَل . فهاهو ذا قد جمع امرأتين تحت سقف واحد ، كل منهما تسعى لرضاه وترجو ثناه . ولم يكن المسكين يعلم بالنيران المستعرة ، والألسنة المنتشرة ، والحرب التي اندلعت؛ ساحتها بيته، وأطرافها عائلته ، زوجة وابنتان ، وضرة كالثعبان .

وقد اختار صاحبنا أن يجمع شمل أسرته في منزل واحد ، حتى يقوي الروابط ، ويجمعهم على قلب واحد . وكي لايتفرق أولاده ، ويكونوا إخوة أشقاء ، لا عدواة بينهم ولا بغضاء . لكنه لم يَدرِ أنه وضع النار مع البنزين ، وأن التماسا طفيفا بينهما  سيحرق داره ، ويخرب أفكاره ، ويهد مستقره وقراره .

وكانت الضرة أمامه تظهر الطيبة ، وتتصرف كالحمل الوديع ، الذي يُضَام فيصبِر ويُظلم فيغفر ، ويؤذَى فيُسامِح ، ويُخاصَم فيصالح . فإذا رأته مقبلا أسرعت إلى أسوإ إثيابها فارتدته ، وحملت المكنسة والدلو ، وألوان المنظفات ، وعمدت إلى أصعب ركن في البيت لتتظاهر بتنظيفه . وقد رسمت على وجهها ملامح التعب ، ومظاهر النصب . أو حملت أثقل ما تسطيعه من أثاث لتغير مكانه ، أو تنظف ماوراءه . فإذا دخل ورآها على هذا الحال ، سألها عن الباقيات ، لم لا يساعدنها ولِمَ هي الوحيدة التي يراها تمسح وتنظف ، في كل وقت ، وكل ركن من البيت . فتبدأ موال الكذب ، الذي تستهله دائما بإيجاد الأعذار السخيفة لضرتها زعما أنها لا تريد أن تفسد صورتها عند زوجها .

حتى إذا رأى صاحبنا هذا الصدق والعطف شد حزمه ، وأظهر جده ، وحثها على التكلم بما كان ، وعليها الأمان . فتشرع في حكاية مأساتها المزعومة ، وتتقمص  دور المظلومة ، التي تعامل كالخادمة ، ويُترَك عليها شغل البيت كله؛ من طبخ وترتيب ، وتنظيف وتهذيب ، وتربية وتأديب ، وغسل للثياب ، وتصليح الأبواب، وإمساك الذباب ، وطلي الجدران، وقتل الفئران، وتنظيف الدجاج وإلصاق الزجاج.. وتقليم الاشجار وجني الثمار وسقي الأزهار وسرح الأبقار.. وحرث الحقل وتغذية النمل وفلي القمل. إلى آخر هذه الأكاذيب المهولة وغير المعقولة، والتي يتجاوزها صاحبنا بطيب خاطر مراعاةً للمشاعر.

ويلتفت إلى المسكينة الأولى يطالبها بما لا يكون، ويطلبها حق ما ذرفت العيون. فتشتاط الأخرى غضبا لكنها تكبت، وإن أُنِّبت تسكت. فالحقيقة أن الحية لا تحرك في البيت قشة، كأن على رأسها ريشة. وتنبطح أمام التلفاز بعدما حققت من إنجاز. وكيف لا تنجح وهي الممثلة المبهرة ذات العيون الساحرة.

لكن الهدوء الذي ظن صاحبنا أنه حصّله لم يدم إلا شهرا، ذاق بعده المر مرا. فبعد أن تمادت الرقطاء في كذبها، واستفحل شرها، كشرت الأولى عن أنيابها، وأطلقت العنان لغضبها كي يتفجر. فما عادت تسكت على تمثيلها الشنيع، وتلفيقها الفظيع.

ودارت حروب كلامية كلاميةلا حصر لها، سملت أقبح عبارات الشتم، وكلمات الذم، وأفظع الهجاء وأنواع الازدراء، وكل بغيض مريع، وقبح شنيع، وذميم مستنكر وعيب مستحقر. وكل ما حوت قواميس السباب، والمعاجم الخراب.

ولاينتهي هذا القذف ، إلا بصرخة من الرجل بعد أن تلف العصب ، وزاد الغضب ، فيترك بعدها المنزل ، لينام في أي محل .

وتصاعدت المعارك ، فصارت بعد الاقتصار على مشادات الكلام ، وكيل الملام ، تصل إلى الضرب باليدين والركل بالأقدام . ويتخللها الصفع المتبادل ، والمبارزة بالمعاول . وقد يتراشق بالأحجار ، أو يضرب بالمنشار ، وبكل مقلاة وكأس وقدر وفأس ، وكف ورأس . كل هذا وصاحبنا قد فر بجلده ، ونجا برأسه ، حتى لايصيبه سكين عابر أو صحن طائر.

وتوالت الحروب ليل نهار ، وفجرا وأسحار ، و عشية وبكور ، وأياما وشهور . حتى بان للرجل الصدق من الزيف ، والحق من التخريف ، واليقين من التحريف، والصادق من الكذاب ، والواثق من المرتاب . فعقد عزمه ، وحسم أمره وطلّق الحية الماكرة ، بعد أن اتضح له الجوهر المشوه ، واللب المموه ، وحمد الله أنه لم يرزق منها الولد ، وإلا لظلت في حياته كالوتد.

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى