مكتبتنا

مراجعة كتاب رأفت الهجان

بعد ذلك الحوار الذي امتد لساعة تقريبا حول الدول والإمكانات ، وتَفَرَّع للجواسيس ليصل إلى “رأفت الهجان” ومافعله في قلب إسرائيل ، تذكرتُ ذلك الكتاب ذا الست مائة صفحة وأكثر ، والمغلف بغلاف بُنِّي يحفظ صفحاته المصفرة من التلف . ذاك الكتاب الذي لم يجد له متسعا في المكتبة ، وكان نصيبه ركنا قصيا في أحد دروج الأسِرّة . ورغم أنه كان موجودا في البيت لسنوات عديدة ، إلا أنّي لم أمتلك الفضول الكافي لقراءته إلا في تلك اللحظات التي تَلَت الحوار المتشعب بين أفراد الأسرة في إحدى جلساتها اليومية .

أحضرت الكتاب وأخذت ألتهم صفحاته التهام الجائع الذي يريد إسكات جوعه ، والظمآن الذي يبحث عما يروي عطشه . لكني – ولفرط حماسي الغريب – توقفت في أولى فصوله متسائلة عن مدى واقعيتها . لذا فقد قصدت الحاسوب باحثة عن معلومات ربما نُشرت على لسان “رأفت” أو من عاش معه وعرف قصته . ووجدت لقائين مع زوجته وابنه لكنها لم تُجب عن تساؤلاتي كما ينبغي ، لتقع يدي بعد ذلك على مذكرات الراحل مصحوبة بذكريات عائلته ، وهنا وجدتُ ضالتي المنشودة .

بين “رأفت الهجان ” ، و”رفعت الجمال” ..

قد لا تكون الأسطر القادة مراجعة لرواية “رأفت الهجان” ، بقدر ماهي مقارنة حقائقَ بين كتابين يتحدثان عن نفس الشخص ، ويرويان حياته وبطولاته ، أحدها بقلم “صالح مرسي” والآخر على لسان البطل نفسه ، ولسان زوجته وأولاده . ولأني قرأت الكتابين في الوقت ذاته ، فقد آثرت أن أنقل تجربتي مع “رأفت الهجان” على النحو الذي سارت عليه .

كيف كتب مرسي الرواية ؟

نقلا عن مرسي في أول صفحات الرواية ، والذي صرح بأن أحد ضباط المخابرات المصرية قدم أوراقا تحمل في طياتها ملخص قضية العميل 313 والذي أسماه في روايته “رأفت الهجان” ، ثم جلس لساعات مع هذا الضابط الذي سماه “عزيز الجبالي” والذي عرفتُ بعد قراءتي للأخبار من هنا وهناك أن اسمه الحقيقي “عبد العزيز الطودي ” ، جلس معه يستمع إلى قصة أحد أبناء مصر ، الذي ترك حياته وأمانه ليعيش في “عرين الأسد” فداء لأرضه .

يقول مرسي “ لقد كانت الأوراق التي كتبها ‘السيد ‘عزيز’ عن هذه العملية ليست سوى شحنة عاطفية متفجرة . تلك الأوراق التي قُدمت لي في أحد أيام الصيف الماضي -بالتحديد في يونيو 1985 – فاعتذرت عن عدم قراءتها لأسباب شخصية ، ثم قدمت لي مرة ثانية وثالثة في كرم لست أنكره وقد لا أستحقه ، واعتذرت أيضا …
غير أني في المرة الرابعة ، وما إن وقعت عيناي على أولى الكلمات في تلك الأوراق ، حتى وجدتني أهوي معها إلى هوة بلا قرار ….. ثم كان لا بد أن ألتقي بعزيز الجبالي ..

وتحكي زوجته – أي مرسي – أن الأوراق التي قدمت له لم تتجاوز العشرين صفحة ، ومع ذلك فقد استطاع بحق أن يُخرج للعالم رائعة من الروائع بأسلوب يأسر اللب والقلب .

سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي ، لأواجه خيارين في نهاية المطاف : إما أن يُقبض علي وأستجوب وأشنق ، أو أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة الأوسكار. وكنت مقتنعا أيضا بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها .

رفعت الجمال (رأفت الهجان)

من هو رأفت ؟ ..

تتحدث الرواية عن ذلك الرجل الذي ولد في مصر وتَيَتَّمَ في صغره ليعيش تحت رعاية أخيه . ثم تتقاذفه أمواج الحياة ذات اليمين وذات الشمال ، فلا يجد عملا إلَّا ويفقده ، ولا يرتقي لمنصب إلا ويحدث ما يُطيح به . لينتهي الأمر به آخر المطاف في أحد السجون المصرية بتهمة سرقة وانتحال شخصيات . وفي رحلة البحث عن “أفاق ” كما سماه كاتب الرواية ، ليُكلَّف بمهمة نقل المعلومات عن إسرائيل ، كان رأفت الرجل الأفضل ، والعميل الأمثل .

وتم اختياره ..
وهنا قام رأفت بمهمته على الوجه المطلوب ، أو أكثر مما كان مُنتظرا منه كما قال الكاتب ، فقد كان أداؤه على خشبة الواقع مذهلا ومقنعا ، ويستحق عليه جائزة الأوسكار كما قال لاحقا في مذكراته .

في قلب إسرائيل كان رأفت يُعزز موقعه ، ويحتك بسلاسة بأصحاب المراتب ممن يملكون معلومات من العيار الثقيل ، لها وزنها وقيمتها في تحريك الوقائع . وحصل هنالك على معلومات دقيقة عن أجهزة المخابرات الإسرائيلية ومجالات نشاطها ، وكذا معلومات عسكرية ، كتلك التي تتعلق باتفاقيات الأسلحة والمعدات والعمليات العسكرية . كما استطاع الإبلاغ عن مخططات إسرائيل في بناء مفاعلات نووية ، إضافة إلى تدريب جنودها على استخدام أسلحة ذات مستوى تكنولوجي راق . ونظرا لدقة عمله فقد رُشِّح لمجلس الوزراء الإسرائيلي لكنه رفض لأن ذلك يشكل خطرا على مهمته . أما ما اعتبره رأفت أفضل وآخر إنجازاته فهو المعلومات التي قدمها قبل حرب 1973 والتي ساهمت في النصر المحقق .

مات رأفت بمرض السرطان سنة 1982 ، ودُفن في ألمانيا في مدينة دارمشتات قرب فرانكفورت .

العربية نيوز: رأفت الهجان.. جاسوس بدرجة وطني
رأفت الهجان أو رفعت الجمال أو جاك بيتون

رأفت و رفعت ورحلة الجوسسة ..

كانت الرواية – والتي تحولت فيما بعد لمسلسل – تعتمد أسلوب الفلاش باك في سرد الوقائع . بداء بتلك الرسالة اليتيمة التي أرسلتها زوجة الراحل “ديفيد شارل سمحون” إلى جهاز المخابرات المصرية حاملة نعي الفقيد ، لتستقبل بعدها زائرَيْنِ من الجهاز في منزلها بألمانيا ، واللذان لم تتعرف عليهما وتأمنهما إلا من خلال نصف الرسالة التي حوتها ورقة المارك الألماني القديمة ، والتي كان نصفها الثاني في جعبتها ، بخط زوجها ، يؤكد فيها أن حاملي الرسالة هم أهله وعليها أن تثق بهم . ثُمَّ ، وبإجراءات معينة بالغة السرية ، تَمَّ استضافة السيدة سمحون في مصر لتسمع من “عزيز الجبالي ” نفسه قصة زوجها البطل .

هذه المقدمة بالتحديد ، هي التي بثت في نفسي – وأنا أقرأ الرواية – تساؤلات لا حصر لها عن حقيقة ما حدث . ولهذا شرعت في البحث عن مصادر حقيقية أخرى للقصة قد توضح لي الحقائق ، وتبين المقاطع المحبوكة من خيال الكاتب من تلك الواقعة فعلا .

هنا حمّلت مذكرات الراحل ، وشرعت في قراءتها . أول الحقائق التي عرفتها كانت أسماء الشخصيات الحقيقة . فرأفت علي سليمان الهجان ، هو رفعت علي سليمان الجمال ، وديفيد شارل سمحون الذي عُرف به طيلة حياته كجاسوس حتى موته ، هو جاك بيتون ، وهيلين سمحون – زوجته – هي فالتراود بيتون ، وشريفة أخته هي نزيهة ، إلى بقية الأسماء التي سيتعرف عليها القارئ عند قراءة الكتابين .

واتضح لي أن حكاية رسالة النصف مارك تلك ربما لا أصل لها من الأساس ، تماما كجلسة اللقاء تلك مع عزيز الجبالي . فقد ذكرت السيدة بيتون في المذكرات أنها عرفت حقيقة زوجها يوم وفاته من طرف “محمد” ابن أخيه سامي . ثم وبعد مدة استطاعت أن تحظى بلقاء مع أحد رجال المخابرات المصرية – وقد يكون عزيز كما ذكر الكاتب في الرواية وربما غيره – حكى لها هذا الأخير ملخصا لقصة رأفت أو رفعت . وبعد ثلاث سنوات قدم لها محامي رفعت أو جاك مذكراته بناء على وصيته . بعد ذلك تمكنت من عقد لقاء مع كاتب الرواية الذي أشاد برفعت ، و’أفاض في الحديث عن عظمته ‘ كما جاء في كلامها ، وأخبرها أن جهاز المخابرات قد تعاقد معه على تأليف الكتاب ، واضعا تحت يديه الملفات اللازمة .

وبعد قراءتي للرواية والمذكرات ، لم أجد اختلاف كبيرا في لب الوقائع ، غير بعض السيناريوهات التي أظن أن الكتاب أضافها ليكتمل المشهد من كل النواحي ، وربما لم تكن إضافات ، فما ذكره “رافت ” في مذكراته كان ملخصا سريعا لحياته الحافلة بالأحداث ، خاصة وأنه كتبه على فراش المرض ، وهو يسابق منجل الموت قبل أن يحصد روحه . و إلى جانب ما أظنه إضافات ، كان هناك “الأسلوب” .. فشتان بين ما تحملك إليه الرواية ، وبين سطور الراحل ، رغم أنه كان بطل القصة وصانعها ، لكنه الفرق بين قلم الأديب وغيره .

لم يكن هناك فرق في الأحداث بين الكتابين في ما سبق سفره لتل أبيب ، بل وجدتها متطابقة لحد ما . لكن التشويش بدأ بعد سفره ، خاصة وأن الأسماء هناك مختلفة ، ووجدت صعوبة في معرفة ” مَن كان مَن ؟ ” .

كان سهلا أن أعرف أن من استقبله فور وصوله من رحلته من مصر إلى نابولي قاصدا ” أرض المعاد” هما “برونو شتينبرج ” و ” روبرت جيزيل ” اللذان حملا في الرواية اسم ” صموئيل عازارا ” و “شمون بن جورا” . كما أن استقباله في تل أبيب جاء مطابقا تماما لما ذُكر في الرواية ، غير أني عجزت عن معرفة من مثل دور “سام شواب ” الذي ذكره رفعت في قصته . لكني رجحت أن كُلًّا من سام شواب ، وموشي ديان ، وغيرهم ممن ذكرهم الراحل ، ليسو سوى أولئك النفر الذين تكررت أسماؤهم كثيرا في الرواية ، والذين كانو على علاقة وطيدة ببطلها أمثال “بيخور شطريت ” ، و”دان رابينوفيتش” ، و “إيزاك بن عميتاي ” الذي أكاد أكون واثقة أنه “عزرا وايزمان” في الحقيقة ، و”سيرينا أهاروني” وغيرهم ممن كان رأفت يعدهم مصدر معلوماته الأول نظرا لمناصبهم الحساسة .

كانت مهمات رأفت وماقدمه متطابقة لحد كبير بين الكتابين ، حتى ذلك الأثر الذي خلفه فيه انتصارٌ كان هو عاملا فيه ، أو خيبةٌ جاءت جراء تجاهل ما قدمه وعدم أخذه على محمل الجد من السلطات لسبب غير معروف . وقد أفلح الكاتب في تصويره على النحو الذي وصفه رأفت باختصار في مذكراته ، كما لو أنه كان معه ، وعاش انفعالاته .

هل كان رأفت الهجان جاسوساً إسرائيلياً؟
رأفت الهجان مع زوجته

أما ما حيرني ، واستغربته ، فهو عدم ذكر زواجه على النحو الذي سار عليه . فحسب رأفت وزوجته فقد تم الزواج في 1963 ، لكن الكاتب لم يذكره حتى سنة 1973 ، أي عندما تقرر أن مهمة رأفت قد انتهت . غير أن ذلك لم يؤثر كثيرا على القصة ، مع أنني أحببت لو أنه ساق هذا الحدث بالذات كما جاء على أرض الواقع . كما أن جثمان الفقيد لم تنقل إلى مصر كما جاء كإضافة في آخر مشهد في الرواية بل ظل بألمانيا ، وربما كانت تلك رغبة في نفس “صالح ” .

لم تأت الرواية على ذكر عمل رأفت الجديد بعد أعماله في السياحة ، وحسب مذكراته فقد عمل في البترول بعد تأسيسه لشركة “أجيبيتكو” .
لم تتحدث الرواية كذلك عن حياته الأسرية ، لذا فالمذكرات التي نشرتها زوجة الراحل تتمة مناسبة للرواية خاصة من الناحية الاجتماعية والعائلية . ومع أن الكاتب ذكر أن لرأفت ولدين ، لكنه لم يُفصل القول فيهما . والولدان في حقيقة الأمر هما ابنه من صلبه دانيال ، وربيبته أندريا ابنة زوجته من زوجها السابق ، والتي لم يكن يعدها إلا ابنة له . وقد أسلمت العائلة – فيما تحكيه فالتراود بيتون – وتلقى ابنه حقيقة والده بفرح قائلا : “هذا هو بالضبط أبي ، تتسم أعماله بالجسارة والجرأة غير المعهودة … لقد كنت دائما فخورا به ، غير أن هذا يجعلني أكثر زهوا طالما وأنه أداه لخدمة بلده وبهذا القدر العظيم من النجاح .”

خاتمة ..

كانت هذه رحلتي مع “رأفت الهجان” ، وكتابين تناولا بمنتهى الكرم حياته ، لينقلا للعالم قصة من الواقع لم أكن أحسب لمثيلاتها وجودا . وإن كان هناك ما يمكن تعلمه من “رأفت” فهو أن أي شخص مهما كان منصبه وقدراته يستطيع – لو أراد – وعَقَدَ العزم أن يخدم وطنه وأمته في تفان منقطع النظير .

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى