مكتبتنا

مراجعة كتاب الدكتور جيكل ومستر هايد

كنت أتابع مع أختي الصغرى حلقة خاصة من “المحقق كونان” .. واحدةٌ من تلك الحلقات القليلة التي يترقبها المشاهد بلهفة وفارغ صبر ، بعد سلسلة حلقات متشابهة أو تكاد ، بعضها ممل لدرجة شعورك  بالسخط على منتِج المسلسل. حلقة من لب الحكاية التي يكاد المتابع ينساها بعد سيل الجرائم المتشابه الذي يسبقها ومثيلاتها من النوادر ، ومن يتابع المسلسل يفهم قصدي بلا شك .

 في الحلقة يلتقي محققنا الصغير “صدفة”  – لو كان في الكون صدفة – بفرد جديد من العصابة التي صنعت قصة المسلسل ومازالت تدير دفة أحداثه بين الفينة والأخرى . وبينما كان هذا الفرد  -وهي امرأة على فكرة –  يرتب مجموعة الكتب والمجلات التي سيتخلص منها ، والتي كان من ضمنها كتاب “الدكتور جيكل وهايد” ، تحدث “كونان” كعادته الفلسفية المحبة لتوضيح الأمور عن موضوع القصة إجمالا ، ويمكن اختصار شرحه في كلمتين تمثلان بحق فكرة الكتاب :” ازدواج الشخصية ” .

كان لهاتين الكلمتين دور كبير في حل ملابسات قضية الحلقة . ولعل قارئ هاته السطور قد تكهن لو قليلا موضوع الكتاب ، وربط بين الكلمتين والاسمين في العنوان ، تماما كما فعلت أنا .. فأنا ولأكون واضحة لم أسمع الشرح المبسط من فم المحقق الصغير وقتها .. إذ سارعت إلى البحث عن الكتاب ثم تحميله حتى لا أنسى قراءته لاحقا ، وعندما عدت للمتابعة لم ألتقط سوى الكلمتين أعلاه . حينها كوّنتُ فكرة سريعة ، وهي أن الكتاب ربما يتحدث عن مرض انفصام الشخصية . والعجيب أني كنت واثقة من استنتاجي العبقري حتى والقصة تجاوزت نصفها الأول .

حقيقةً لا أعلم كيف بالإمكان كتابة مراجعة للكتاب دون حرق الأحداث ، وقتل الإثارة والتشويق اللذان أجبراني على إتمامه في وقت قصير رغم أن الظرف لم يكن مناسبا البتّة ، ولم يكن الجو جوَّ مطالعة على الإطلاق . مع ذلك لم أستطع كبح فضولي وتوقي لمعرفة النهاية ، خاصة بعد أن ثبت أن أول استنتاجاتي كان خاطئا وبعيدا كل البعد عن مجريات القصة . ولعل القارئ يصيب في تحليل الأحداث ويكتشف لب اللغز ، لكنَّ الـ”كيف ؟ ” سيبقى مطروحا حتى الختام.

عن الكاتب ..

روبرت لويس بلفور ستيفنسون .. روائي وشاعر وكاتب اسكتلندي ، تخصص في أدب الرحلات. وقد لاقى إعجابًا كبيرًا من الكثير من الكتاب، مثل خورخي لويس بورخيس وإيرنست هيمنجواي ورديارد كيبلينج وفلاديمير نابكوف وجي كاي تشسترتون.

ولد في ادنبرة عاش طوال حياته مريضا بداء السل. درس القانون و عمل محاميا . قام برحلات كثيرة بحثا عن المناخ الملائم لصحته. تفرغ للأدب بعد أن ذاع صيته ككاتب روائي له أسلوب حلو طلي وخفيف الظل.

قام في العام 1894 بجولة واسعة النطاق في البحار الجنوبية، ثم استقر في ساموا، حيث كتب روايته فاليما ومات هناك.

من رواياته : حديقة أشعار الطفل ، جزيرة الكنز ، المخطوف ، السهم الأسود، سيد بالانتري و دكتور جيكل ومستر هايد التي سنتناولها في الأسطر القادمة .

مراجعة سريعة ..

حاول “ستيفنسون” في القصة أن يجسد مفهوم الخير والشر في النفس البشرية ، أو كما يمكن أن نُسميها “النفس الطيبة” و “النفس الشريرة الأمارة بالسوء” . وكيف تتصارع الاثنتان في داخل المرء لتشكل ما يراه الناس عنه ومنه . وتُكوِّن تلك الشخصية الممزوجة التي لاتكتمل صورتها و كيمياؤها إلا بوجود النفسين معا . وقد تتغلب إحداهما لتحجب الأخرى وتكمّم “وحشها” أو “ملاكها” فتَصرِفَه عن الظهور إلا ما نَدَر .

وجدلية الخير والشر هذه كانت ولاتزال أحد الأسئلة التي تتربع على عروش التفكير في عقول المفكرين والفلاسفة والمتأملين ، تماما كما تساءل الدكتور جيكل : “يوجد تعليل يفسر وجود الجانبين الطيب والشرير في البشر” .

هل يمكنك تصور كيف يكون الإنسان “خيرا كله” أو “شرا كله” ؟ . تخيل انطباعك عند رؤية الأول ثم الثاني  . “ستيفنسون ” صوّر لنا بعضا من هذا في صفحاته التي حملت لغزا محيرا للمسكين ” أترسون ” لم يفهمه إلا في النهاية ، ولكنَّ ثمن الفهم كان باهضا للغاية .

لعل ستيفنسون كان متؤثرا بفكرة الخير والشر هذه ، ففور فهمي لفكرة القصة تبادر لذهني مباشرة شخصيةٌ أخرى أظهرت جليا كيف يمكن أن يظهر الجانبان بقوة في ذات الشخص ، وهي شخصية “سيلفر” من جزيرة الكنز . تخيُّلي هذا كان حتى قبل أن أنتبه أن كاتب القصتين واحد . وهذه الإجابة التي صادفتها مرة على كورا خير دليل على كلامي : ” في الوقت الذي يعتاد فيه الطفل في مسلسلات الكارتون على النقيضين (خير مطلق وشر مطلق) جاء سيلفر كشخصية مُحيرة جدًا ومعقدة بالنسبة لي كطفل، إذ لم تكن لتفهم عند متابعة المسلسل فيما إذا كان سيلفر شخصية سيئة أم شخصية جيدة، فهو يمتلك أحيانًا صفات الشرير وأحيانًا أخرى صفات الرجل الطيب وهذا أصابني بحيرة كبيرة أثناء طفولتي. قد يبدو لنا الآن كبالغين بأنه الطبيعي أن الشر والخير يتداخلان بنسب متفاوتة لدى الناس، لكن هذا لم يكن أمرًا قد اكتشفته بعد كطفل مثل أي طفل آخر اعتاد بأن مسلسلات الكارتون تحتوي على شخصية تمثل الخير المطلق وأخرى الشر المطلق. وهنا جاء سيلفر كأول شخصية مُعقدة تحتوي كلتا الصفتين معًا وأول شخصية تعلمت منها أن الحياة والأشخاص ليست ببساطة إما أبيض وإما أسود.

لا يتعدى الكتاب ثمانين صفحة ، استهلَّها الراوي  بالحديث عن المحامي “أترسون” ، الذي لم أقرأ اسمه إلا وعُدت أدراجي إلى الغلاف أتأكدُ من العنوان. حسنا .. لم يكن أيًّا من الاسمين .. لكني خمّنت وأنا أكمل أول صفحتين أنه شخصية مهمة . وبالفعل ، فحضوره هو الأقوى على الإطلاق ، حتى من جيكل وهايد نفسهما .

أحببت شخصية “أترسون” ، بل وتقمصتها لأعيش الدور كما يجب . كما أني لم أجد نزهاته “الصامتة” مع “إينفيلد”  غريبة . إذ لطالما أحببت مثل تلك النزهات واستمتعت بها – تماما كما فعلا – عندما كنت في الجامعة ، أقضي بعض أوقات الراحة في حدائقها مع صديقتي ، والصمتُ الهادئ الجميل رفيقُنا لساعات ، لا يقطعه إلا كلمة من هنا وهناك من حين لآخر .

عندما توقف “إينفيلد” ليحكي قصته التي كانت عود الثقاب الذي أشعل فتيل الأحداث بسرعة استغربها “أترسون” نفسه ، توقعتُ أن القصة التي سيرويها هي موضوع الكِتاب ، يقدمه الكاتب على لسان إينفيلد على غرار “كليلة ودمنة” ، خاصة مع استخدامه لهذا المقطع :   ( استطرد السيد إينفيلد قائلا ً : ‘إنه يذكرني دائما بقصة غاية في الغرابة ‘ .  نظر مستر أترسون إلى ابن عمه وقال: ‘حقا؟ وما هذه القصة؟’ . في تلك اللحظة كان السيد إينفيلد غارقا في التفكير . ) . لكن هذا التوقع خاب كسابقه ، واستمرت القصة على النحو المعتاد .

تأتي الأحداث بعدها تباعا .. كل حدث أغرب من غيره وأدعى للحيرة التي رافقت “أترسون” حتى النهاية .

عندما قرأت خلاف “جيكل” مع “لانيون” بدايةً ، حاولت باستماتة خلق أعذار للأول عند الثاني . ربما لأني من النوع الذي يُمجد الصداقات الطويلة ، ويعز عليه انقطاعها لسبب أو لآخر تماما مثل أترسون الذي خاطب لانيون مترجيا : “نحن ثلاثة أصدقاء قدامى، وليس في مقدور المرء أن يستغني عن صديق قديم عزيز ”  . لكني أيدت “لانيون” آخر الأمر ، ووقفت بصفه ، فعذره مقبول وقوي .

الشيء الذي تمنيت لو أن الكاتب أضافه ، هو معرفة رد فعل “أترسون” بعدما انجلى الغموض وانقشع الضباب عن الأسباب . وتوقعي أنه لن يختلف كثيرا عن رد “لانيون” .

لا أخفي عنكم أني شعرت ببعض الإحباط عندما توضحت القصة . ربما لأني افتقدت عنصرا مهما فيها – على الأقل بالنسبة لي – وسأترك لكم تخمينه ومعرفته بعد قراءة الكتاب كي لا أفسده .

السرد في مجمله جميل ومشوق ، ويسمح لك أن تعيش الرواية كشخصية فيها . كما أن تخيل الشخصيات والأماكن ممكن وسهل بعد الوصف الدقيق الذي قدمه الكاتب لكليهما .

اقتباسات من الكتاب ..

لم أجد الكثير من الاقتباسات في الكتاب أو ربما لم أدقق كثيرا ، لذا سأكتفي بالقليل هنا :

“في الحياة الكثير من الالتواءات والمنعطفات لكن النجوم جميلة دائما”

“جميعنا فضوليون بالطبيعة “

“إذا كنت أكبر الخطائين، فأنا أيضا أكبر المعذَّبين؛ فحتى ذلك الحين لم يكن لدي أدنى فكرة أن الحياة يمكنها أن تحمل مثل هذا الشجن. يا أترسون إذا كنت تأمل أن تخفف من ألمي بأي شكل من الأشكال، فأرجوك احترم صمتي.”

في الختام ..

كتاب جيكل وهايد بحجمه المتوسط أو الصغير كم أراه أنا ، ضم في ثناياه قضية شغلت الفلاسفة والعلماء -حتى المسلمين منهم – في جدلية عميقة عن الخير والشر والنفس البشرية . محتواه سهل ، وحجمه يفتح شهيتك لإتمامه في ظرف قصير ، مع الفضول الذي سيعتريك وأنت تقرؤه .

أخيرا إن كنت تريد قراءته بأي اللغتين شئت فتفضل هنا : الدكتور جيكل ومستر هايد ، Dr Jykell and MR Hyde . وشاركنا رأيك عن الكتاب في تعليق لإثراء المراجعة .

آفاق

ماستر ومهندسة في الإعلام الآلي والبرمجيات .كاتبة و شاعرة مبتدئة . أحب كتابة الخواطر ، مهتمة بتربية الطفل وعالمه الواسع . أحب الكتاب أيا كان موضوعها ومجالها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى