إسلامياتمنوعات

قيام الليل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين أما بعد :

أحبابي الكرام في هذا المقال سنتحدث عن عبادة جليلة ومنسية في نفس الوقت عند كثير من المسلمين ، بل أصبح كثيرٌ من المسلمين لا يعرفها في السنة إلا مرةً واحدة؛ ألا وهي عبادة قيام الليل ، وسنتكلم اليوم بالتحديد عن فضائل قيامه والأجر الذي سنكسبه في الآخرة :

فضائل قيام الليل :

أولا: أنَّها من علامات المتَّقين، الله أكبر! يقول ربُّنا جلَّ في علاه: (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) الآن الله سبحانه يصفهم (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، اعرض هذه الصفة على نفسك، على واقعك، على حياتك، (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الله أكبر! يقومون الليل، كما قال الإمام الحسن البصري: يعني لا ينامون من الليل إلا قليلاً، فهم يكابدون الليل في القيام والركوع والسجود، ومع ذلك يختمون هذه العبادة بالاستغفار، سبحان الله! وقدوتهم في ذلك سيِّدهم محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، حيث كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطَّر قدماه. فانظروا -يا رعاكم- الله كيف هذا الإنسان الذي قام من الليل..، طبعًا قيام الليل يحتاج إلى جهاد نفس؛ لأنَّ قيام الليل -كما قال بعض أهل العلم- من أشقِّ العبادات على النفس، فقيامها يحتاج إلى جهد، يحتاج إلى بذل، يحتاج إلى تمرين وتدريب، بعض الناس يسأل يقول: أنا كيف أقوم الليل؟ أقول: لا بدَّ في الأيام الأولى لا بدَّ أن تشعر بالتعب وتشعر بالمشقَّة، لكن مع التدريب والتمرين والممارسة يصبح عندك قيام الليل جزءٌ من حياتك، ما تستطيع أن تستغني عنه، هؤلاء الذين يقومون الليل وصفهم الله سبحانه وتعالى أو جعلهم من المتَّقين، بل من أبرز علامات المتَّقين.

ثانيا : في قيام اللَّيل يَحْصُلُ العبدُ على كلِّ خير لدنياه؛ فإنَّ في الليل ساعةً لا يوافقها عبدٌ يسأل الله تعالى خيرًا من أمر دنياه وآخرته إلَّا أعطاه إيَّاه؛ فعن جابر – رضي الله عنه – أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ من اللَّيل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة» ( أخرجه مسلم ) ، فانظروا يا عباد الله كم في قيام اللَّيل من مصالح دنياكم؛ بل فيه مصالحُ دنياكم كلها؛ لأنك يا عبد الله لا تعلمُ ما سينفعك من دنياك مما سيضرك؛ فكم من تجارة تساهمُ فيها وتتحسَّرُ عندما تخسرها ! وكم من بيت تبنيه ويخربُ ! وكم من تعب في مذاكرة لامتحان ترسبُ فيه أو يلغى ! وكم من زوجة تدفع مهرَها وتمني نفسك بها لا توفَّق فيها ! وهكذا حالُ دنياك؛ فلو سألتَ الله في ساعة الاستجابة التوفيقَ في أمورك كلِّها، وقمت بين يدي ربِّك قبل أن تُقْدم على عملك سائلاً إيَّاه أن لا يضيع تعبك، وأن يوفِّقَك لما يرضيك، لما ندمتَ أبدًا؛ حينئذ تطمئنُّ إلى أنَّ مالكَ الدُّنيا المعطي الباسط وليُّك وكافيك وحسبُك؛ فكيف تحزنُ أو كيف تقلق وإيَّاه دعوتَ وعليه توكلتَ ؟!

فهو مُجري السَّحاب ومذلِّل الصِّعاب ومدبِّر الكون ومقسِّم الأرزاق، فيا عزبًا تريدُ الزواج قم فاسأل ربَّك زوجة صالحة تسعدك.. ويا مريضًا، قم فاسأل ربَّكَ شفاء من مرضك.. ويا متاجرًا، قم فاسأل ربَّك أن يُربحك.. وهل يستغني أحدٌ عن الله ؟! ومن يستغن يستغن اللهُ عنه، واللهُ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ إليه؛ أيعلمُ عبدٌ أنَّ اللهَ هو الغني ويؤمن بذلك ثم يزهدُ فيما عنده ؟! لا والله أبدًا 

ثالثا: أنَّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” -أي المقصود في التطوُّعات- ما هو السرُّ، وما هو السبب أنَّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار -أقصد في التطوُّعات-؟ قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى- لثلاثة أمور: أولاً: لأنَّ فيها الإسرار فهي أقرب إلى الإخلاص، إذا أردت الإخلاص، إذا أردت أن تقوِّي إخلاصك لله عزَّ وجلَّ فعليك بقيام الليل، فقيام الليل لا أحد يعلم عنك، لا أحد يدري عنك، أقرب الناس إليك لا يدري عنك، إذن هي أقرب إلى الإخلاص. ثانيًا: قال: ولأنَّ صلاة الليل فيها مشقَّة، فيها مشقَّة على النفوس؛ لأنَّ الإنسان يقوم من فراشه الدافئ الجميل ويقوم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه مشقَّة، فيه تعب، فيه معاناة، بينك وبين نفسك وبين شيطانك. ثالثًا: قال: لأنَّ صلاة الليل القراءة فيها أقرب إلى التدبُّر والتفكُّر والخشوع؛ لأنَّ الإنسان بينه وبين الله سبحانه وتعالى فهو تجده يتأمَّل ما يقرأ.

رابعا : أنَّ قيام الليل سببٌ من أسباب دخول الجنة، روى الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه من حديث عبد الله بن سلام قال صلى الله عليه وسلم: “أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” الله أكبر! “تدخلوا الجنة بسلام” يعني: بلا عذاب، فذكر أهل العلم قالوا: أنَّ من أسباب دخول الجنة قيام الليل.

خامسا : أنَّه سبب من أسباب رحمة الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: “رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ امرأته…” فصلَّيا جميعًا أو صلَّى كل واحد منهما لوحده أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا عائشة -رضي الله تعالى عنها- الصدِّيقة بنت الصدِّيق توصينا بوصيةٍ عظيمةٍ تقول -معنى وصيتها-: يا عبد الله لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع قيام الليل؛ فإذا كان مريضًا أو كسل -يعني أصابه مرض أو تعب عليه الصلاة والسلام- صلَّى قاعدًا صلى الله عليه وسلم.

سادسا : قيامُ الليل يورثُ صاحبه لذَّةً في القلب، وقد حكى ذلك كثيرٌ من السَّلَف : قال ابنُ المنكدر : ما بقي من لذَّات الدُّنيا إلا ثلاثٌ: قيامُ الليل، ولقاءُ الإخوان، والصلاةُ في جماعة , وقال أبو سليمان – رحمه اللهُ : أهلُ الدُّنيا في ليلهم ألذُّ من أهل اللَّهو في لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا , وقال آخرُ: لو يعلمُ الملوكُ ما نحن فيه من النَّعيم لجالدونا عليه بالسيوف , وقال آخر : إن لي وردًا بالليل لو تركته لخارت قواي , قال الغزاليُّ – رحمه الله – في بيان ما يعود على قائم الليل من اللَّذَّة : «وأما النقل فيشهد له أحوالُ قُوَّام اللَّيل في تَلَذُّذهم بقيام الليل واستقصارهم له؛ كما يستقصرُ المحبُّ ليلةَ وصال الحبيب؛ حتَّى قيل لبعضهم : كيف أنت والليل ؟ قال : ما راعيته فقط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملتهُ بعدُ , وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان؛ مرة يسبقني إلى الفجر، ومرة يقطعني عن الفكر. وقيل لبعضهم : كيف الليل عليك ؟ فقال : ساعة أنا فيها بين حالتين، أفرح بظلمته إذا جاء، وأَغْتَمُّ بفجره إذا طلع، ما تَمَّ فرحي به قَطُّ , وقال عليُّ بن بكار : منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر , قال الفضيل بن عياض: إذا غربت الشمسُ فرحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنتُ لدخول الناس علي» (إحياء علوم الدين.

سابعا : صاحب قيام الليل يصبح طيبَ النفس نشيطًا يُعان على عمله سائر يومه؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «يعقد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلَّى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيبَ النَّفْس، وإلَّا أصبح خبيثَ النفس كسلان» ( متفق عليه ) .

وصدق الصادقُ المصدوقُ، فترى أصحابَ القيام لا يبدو عليهم الكسلُ؛ بل يبدون ذووا نشاط وحيوية؛ بينما ترى أصحابَ النوم إلى الصباح وقد تورَّمت أعينهم من النوم لا يكادون يمدُّون أيديهم أو يثنون أرجلهم إلا شعروا بالكسل والتعب، وما ذاك النشاط لصاحب القيام إلا عون من الله تعالى لمناجاته وتقرُّبه إليه، حتى أصبح بصره وسمعه ويده ورجله.. قوة يمنحها الله له لا يجدها غيره؛ لذا فلا تعجب إذا قرأتَ عن الصحابة وتبعهم من السَّلف الصالح الذين يبيتون لربهم سجَّدًا وقيامًا، وإذا أصبحوا كانوا فرسانًا يخوضون غمارَ المعارك ويركبون الصعابَ لا يغلبهم أحدٌ من أصحاب النوم الطويل والرقاد المريح..

ثامنا :  سعةُ الرزق سمةُ أصحاب القيام؛ يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون؛ ذلك لأنهم صبروا على قيام الليل واحتسبوه واتقوا الله – سبحانه وتعالى، وقد وعد الله من اتَّقاه واحتسب عنده الأجر أن يرزقه من حيث لا يحتسب ولا يشعر، ويجعل له مخرجًا من الضيق الذي يُلمُّ به؛ قال تعالى : “وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا” [الطلاق: 2، 3] .

تاسعا :  القيامُ بالليل بالقرآن معينٌ على تثبيت القرآن في الصدر؛ فعن ابن عمر – رضي الله عنهما ، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم : «وإذا قام صاحبُ القرآن فقرأه باللَّيل والنهار ذكَره، وإذا لم يقُم به نسيه» ( رواه مسلم ) ، ويقول الله – تعالى : “إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا” [المزمل: 6]، بعد قوله : “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا” [المزمل: 5] .

فضل قيام الليل في الآخرة :

أولا :  رضا الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله يضحك للعبد يترك فراشَه الوثير وزوجَه الحسناء يقوم يصلي، وقد ورد ذلك في الحديث عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يحبُّهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم…» وذكر منهم : «والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن فيقوم من الليل؛ فيقول : يَذَرُ شهوتَه ويذكرني ولو شاء رقد»( رواه الطبرانيُّ، وقال المنذريُّ: إسناده حسن ) .

ثانيا :  جنةُ المأوى التي لا يُعلم ما أُخفي فيها مما لم تر عينٌ ولم تسمع أذنٌ ولم يخطر على قلب بشر؛ ذلك هو النعيمُ الحقُّ الذي ينتظره؛ قال تعالى : “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة: 15، 16] .

ثالثا:  رحمة الله تعالى للعبد الذي يقوم من اللَّيل يصلي… قال صلى الله عليه وسلم: «رَحم اللهُ رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظَ امرأتَه، فإن أَبَتْ نضح في وجهها الماءَ، ورحم اللهُ امرأةً قامت من اللَّيل فصلَّت وأيقظت زوجَها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»( رواه أبو داود، وقال الألبانيُّ: حسن صحيح ) .

رابعا : من يصلِّي ركعتين يُكتب في الذَّاكرين الله كثيرًا؛ فانظر يا رعاك الله عظم القيام؛ حيث صلاة ركعتين في جوف الليل تُلحقُ صاحبَها بالذاكرين الله كثيرًا؛ فما ظنُّك بمن صلَّى أكثر من ذلك؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أيقظ الرجلُ أهله من الليل فصلَّيا أو صلى ركعتين جميعًا كُتبا في الذاكرين والذاكرات» ( رواه أبو داود وصححه الألباني ) .

خامسا : نيل ما يرجوه العبدُ في الآخرة من المغفرة والرحمة والنعيم والخلد وكل ما سأل؛ لأن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح : «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» ( رواه مسلم ) .

سادسا : قيامُ الليل مُكَفِّرٌ للسَّيِّئات والخطايا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ – رضي الله عنه : «ألا أَدُلُّك على أبواب الخير؛ الصوم جُنَّةٌ، والصَّدقةُ تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل» ثم تلا : “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ”، حتى بلغ : “يَعْمَلُونَ” (رواه التِّرمذيُّ وصحَّحه الألبانيُّ ) .

الفسيفساء

كاتبة متخصصة في العلوم الإسلامية والتغذية الصحية ومهمتة بعلوم الحاسب والبرمجة وتعلم اللغات الحية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى